مقتل عثمان :
و قبيل مقتله يرى عثمان رضي الله عنه في المنام اقتراب أجله فيستسلم لأمر الله ؛ روى الحاكم بإسناد صحيح إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن عثمان أصبح يحدث الناس قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال : يا عثمان ! أفطر عندنا ، فأصبح صائماً و قتل من يومه . المستدرك (3/ 99) و قال هذا حديث صحيح الإسناد و لم يخرجاه ، و وافقه الذهبي و رواه أحمد في فضائل الصحابة من طريق آخر (1/497) قال المحقق : إسناده حسن ، و ورد بلفظ آخر عند ابن حجر في المطالب العالية (4/291) قال المحقق : قال البوصيري رواه البزار و أبو يعلى و الحاكم و قال : صحيح الإسناد ، و ذكره الهيثمي في المجمع (7/232) و صححه الحاكم في المستدرك (3/103) و ذكره ابن سعد في الطبقات(3/75) .
أخرج خليفة بن خياط في تاريخه ( ص 174) بسند رجاله ثقات إلى أبي سعيد مولى أبي أسيد قال : فتح عثمان الباب و وضع المصحف بين يديه ، فدخل عليه رجل فقال : بيني و بينك كتاب الله ، فخرج وتركه ، ثم دخل عليه آخر فقال : بيني و بينك كتاب الله ، فأهوى إليه بالسيف ، فاتقاه بيده فقطعها ، فلا أدري أبانها أم قطعها و لم يبنها ، فقال والله إنها لأول كف خطت المفصّل .
هذا ما ورد عن كيفية دخول الثوار على عثمان رضي الله عنه . و يتسور الخوارج عليه داره و تتوزع سيوفهم دماءه الطاهرة ، فأخذ الغافقي حديدة و نزل بها على عثمان رضي الله عنه فضربه بها و رَكَسَ المصحف برجله فطار المصحف و استدار و رجع في حضن عثمان و سال الدم فنزل عند قوله تعالى :{ فسيكفيكهم الله } ( البقرة 138) ، هنا أرادت نائلة زوجة عثمان أن تحميه فرفع سودان السيف يريد أن يضرب عثمان فوضعت يدها لتحميه فقطع أصابعها فولت صارخة تطلب النجدة فضربها في مؤخرتها ، و ضرب عثمان على كتفه فشقه ثم نزل عليه بخنجر فضربه تسع ضربات و هو يقول : ثلاث لله و ست لما في الصدور ، ثم قام قتيرة فوقف عليه بالسيف ثم اتكأ على السيف فأدخله في صدره ثم قام أشقاهم و أخذ يقفز على صدره حتى كسّر أضلاعه ، هنا قام غلمان عثمان بالدفاع عنه و استطاعوا أن يقتلوا كل من سودان و قتيرة ، لكن أهل الفتنة قتلوا الغلمان جميعاً و تركوا جثثهم داخل الدار ، ثم قام جماعة من الصحابة و ذهبوا إلى داره و خرجوا به و دفنوه رضي الله عنه بليل في حش كوكب ، وكانت مقبرة لليهود فاشتراها عثمان ، و هي في ظهر البقيع فدفن فيها و لم يدفن في البقيع لعدم إذن أهل الفتنة ، ثم إنه في عهد معاوية وسع البقيع و أدخل فيه المكان فصار قبر عثمان داخل البقيع . معجم البلدان (2/262) ، انظر هذا الخبر في الطبري (4/412) . و انظر خبر دمه على المصحف في فضائل الصحابة عند أحمد (1/470-473) بإسناد صحيح و تاريخ خليفة (ص188-190) و المطالب العالية (4/286) و موارد الظمآن (7/128) .
و يكشف أيضاً عن مقاصد القوم ما ذكره ابن كثير في البداية (7/189) : من أن الخوارج نادى بعضهم بعضاً بعد مقتل عثمان بالسطو على بيت المال ، فسمعهم خزنة بيت المال فقالوا يا قوم النجا ! النجا فإن هؤلاء القوم لم يصدقوا فيما قالوا من أن قصدهم قيام الحق و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و غير ذلك مما ادّعوا أنهم قاموا لأجله ، و كذبوا إنما قصدهم الدنيا . فأخذوا ما به من أموال ثم سطوا على دار عثمان و أخذوا ما به حتى إن أحدهم أخذ العباءة التي كانت على نائلة . تاريخ الطبري (4/391) .
فكانت هذه هي البلوى التي بشره النبي صلى الله عليه وسلم و التي يقتل فيها مظلوماً ، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً ، فجاء رجل يستأذن فقال : ائذن له و بشره بالجنة ، فإذا هو أبو بكر ، ثم جاء آخر يستأذن فقال : ائذن له و بشره بالجنة فإذا هو عمر ، ثم جاء آخر يستأذن ، فسكت هنيهة ثم قال : ائذن له و بشره بالجنة على بلوى تصيبه ، فإذا هو عثمان . و يعقب ابن حجر على ذلك بقوله : إن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بالبلوى المذكورة إلى ما أصاب عثمان في آخر خلافته من الشهادة يوم الدار . الفتح (7/38) و (13/55) . و الحديث موجود في البخاري (7/65) و رواه الإمام مسلم في صحيحه برقم ( 6162) و ( 6164) .
فائدة.. قال ابن بطال : إنما خص عثمان بذكر البلاء مع أن عمر قتل أيضاً لكون عمر لم يمتحن بمثل ما امتحن عثمان من تسلط القوم الذين أرادوا منه أن ينخلع من الإمامة بسبب ما نسبوه إليه من الجور و الظلم مع تنصله من ذلك ، و اعتذاره عن كل ما أوردوه عليه ، ثم هجومهم عليه في داره و هتكهم ستر أهله ، و كل ذلك زيادة على قتله . فتح الباري : (13/55) .
و قد اختلفت الروايات في تعيين قاتله على الصحيح ، لكن هذا ليس مهماً لأن المشارك كالقاتل و المتسبب كالمباشر ، و إنما المهم هو التعرّف على هوية قاتليه ، فهم غوغاء من الأمصار كما وصفهم الزبير رضي الله عنه ، و هم نزّاع القبائل كما تقول عائشة ، انظر : الطبري (4/461-462) . و هم حثالة الناس متفقون على الشر كما يصفهم ابن سعد في طبقاته (3/71) . و هم خوارج مفسدون و ضالون باغون كما ينعتهم ابن تيمية في منهاج السنة (6/297) .
هذا بالنسبة لمن شارك في الفتنة ، أما بالنسبة لمن تولى قتل عثمان بنفسه فإني أشارك أخي الدكتور خالد الغيث فيما ذهب إليه من كون ابن سبأ هو الذي تولى قتل عثمان رضي الله عنه ، و إليكم تفصيل ذلك : فحسب ما توفرت لدي من روايات ، جاء نعت قاتله بالموت الأسود و حمار، كما عند خليفة بن خياط (ص174-175) ، أو جبلة - الغليظ - كما عند ابن سعد (3/83-84) ، أو جبلة بن الأيهم كما عند ابن عبد البر . الاستيعاب (3/1046) ضمن ترجمة عثمان بن عفان ، و أورده كذلك بنفس للفظ ضمن ترجمة محمد بن أبي بكر (3/1367) . و كلمة الأيهم ما هي إلا زيادة غير مقصودة من ناسخ المخطوطة . و سببها هو اشتهار اسم جبلة بن الأيهم ذلك الأمير الغساني الذي ارتد زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه . و يؤيد ذلك أن راوي الخبر و هو كنانة مولى صفية هو نفسه راوي الروايتين ، أنظر : جمهرة أنساب العرب لابن حزم (372) .
و بدراسة الروايات السابقة اتضح ما يلي :-
أ- أن تلك الروايات لم تسم قاتل عثمان ، بل تذكر اللقب الذي أطلق عليه .
ب- ذكرت إحدى الروايات أن قاتل عثمان يقال له : حمار . و كلمة حمار لعلها تحريف لكلمة جبلة .
و يؤيد ذلك ما قيل بخصوص زيادة كلمة - الأيهم - على اسم جبلة عند راوي الخبر ، و هو كنانة مولى صفية ، لأن راوي خبر لفظة حمار هو كنانة أيضاً . هذا بالإضافة إلى التشابه الموجود في متون تلك الروايات .
و مما سبق يلاحظ أن الذي قتل عثمان رضي الله عنه يعد شخصاً واحداً ذا ألقاب عدة ، فهو الموت الأسود ، و هو رجل أسود من أهل مصر يقال له جبلة ، و هو عبد الله بن سبأ - ابن السوداء - الذي جاء إلى المدينة مع وفد مصر . لمزيد من التفصيل في ذلك راجع : استشهاد عثمان و وقعة الجمل في مرويات سيف بن عمر في تاريخ الطبري ، للدكتور : خالد بن محمد الغيث (ص128-130) .
قال محب الدين الخطيب في حاشيته على العواصم (ص73) : الذين شاركوا في الجناية على الإسلام يوم الدار طوائف على مراتب ، فيهم الذين غلب عليهم الغلو في الدين فأكبروا الهنات و ارتكبوا في إنكارها الموبقات ، و فيهم الذين ينزعون إلى عصبية يمنية على شيوخ الصحابة من قريش ، و لم تكن لهم في الإسلام سابقة ، فحسدوا أهل السابقة من قريش على ما أصابوا من مغانم شرعية جزاء جهادهم و فتوحهم ، فأرادوا أن يكون لهم مثلها بلا سابقة ولا جهاد . و فيهم الموتورون من حدود شرعية أقيمت على بعض ذويهم فاضطغنوا في قلوبهم الإحنة و الغل لأجلها ، و فيهم الحمقى الذين استغل السبأيون ضعف قلوبهم فدفعوهم إلى الفتنة و الفساد و العقائد الضالة ، و فيهم من أثقل كاهله خير عثمان و معروفه نحوه ، فكفر معروف عثمان عندما طمع منه بما لا يستحقه من الرئاسة و التقدم بسبب نشأته في أحضانه ، و فيهم من أصابهم من عثمان شيء من التعزير لبوادر بدرت منهم تخالف أدب الإسلام ، فأغضبهم التعزير الشرعي من عثمان ، و لو أنهم قد نالهم من عمر أشد منه لرضوا به طائعين ، و فيهم المتعجلون بالرياسة قبل أن يتأهلوا لها اغتراراً بما لهم من ذكاء خلاب أو فصاحة لا تغذيها الحكمة ، فثاروا متعجلين بالأمر قبل إبانه ، و بالإجمال فإن الرحمة التي جبل عليها عثمان رضي الله عنه وامتلأ بها قلبه أطمعت الكثيرين فيه ، و أرادوا أن يتخذوا من رحمته مطية لأهوائهم .
و لمعرفة ما آل إليه مصير من شارك في قتل عثمان رضي الله عنه راجع مقالة : ( تعقيب واستدراك على مقالة مصير عبد الله بن سبأ ) ، و لمعرفة هل لمحمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه يد في قتل عثمان أم هو بريء من ذلك ، راجع مقالة : ( براءة محمد بن أبي بكر الصديق من دم عثمان رضي الله عنه ) . و ذلك حتى تكون الصورة كاملة و واضحة في الأذهان .
و لعله بعد هذا لا يبقى مكان و لا مصداقية للروايات التي تشرك الصحابة رضوان الله عليهم في قتل عثمان و التآمر عليه ، فقد اجتهدوا في نصرته و الذبّ عنه ، و بذلوا أنفسهم دونه ، فأمرهم بالكف عن القتال و قال إنه يحب أن يلقى الله سالماً ولوا أذن لهم لقاتلوا عنه ، فثبتت براءتهم من دمه رضوان الله عليهم كبراءة الذئب من دم يوسف .
و ظهرت حقيقة الأيدي التي كانت تحرك الفتنة ، و التي لطالما دندن الإخباريون الشيعة حولها بأنها أيدي الصحابة ، و لله الحمد فقد حفظت لنا كتب المحِّدثين الروايات الصحيحة و التي يظهر فيها الصحابة من المؤازرين لعثمان و المنافحين عنه المتبرئين من قتله ، و المطالبين بدمه بعد قتله ، و بذلك يستبعد أي اشتراك لهم في تحريك الفتنة أو إثارتها .
و قد يتساءل قارئ أو يقول قائل : كيف قتل عثمان رضي الله عنه و بالمدينة جماعة من كبار الصحابة رضوان الله عليهم ؟ و هو سؤال وضعه ابن كثير في البداية والنهاية (7/197-198) ثم أجاب عنه و قد شاركه المالقي في التمهيد والبيان ( ص 131-132) في الإجابة ، موضحين ما يلي :-
أولاً : إن كثيراً من الصحابة أو كلهم لم يكونوا يظنون أن يبلغ الأمر إلى قتله ، فإن أولئك الخوارج لم يكونوا يحاولون قتله عيناً بل طلبوا من أحد أمور ثلاثة : إما أن يعزل نفسه أو يسلم إليهم مروان بن الحكم أو يقتلوه . و كانوا يرجون أن يسلم إليهم مروان – لأتهم يتهمونه بأنه هو الذي كتب الكتاب على لسان عثمان يأمر فيه والي مصر بقتلهم ، و هذا لم يثبت و ليس هناك دليل صحيح - أو أن يعزل نفسه و يستريح من هذه الضائقة الشديدة . و أما القتل فما كان يظن أحد أنه يقع ، و لا أن هؤلاء يجرؤن عليه إلى هذا الحدّ .
ثانياً : إن الصحابة دافعوا عنه ، لكن لما وقع التضييق الشديد عزم عثمان على الناس أن يكفوا أيديهم حقناً لدماء المسلمين ففعلوا ، فتمكن المحاصرون مما أرادوا .
ثالثاً : أن هؤلاء الخوارج اغتنموا غيبة كثير من أهل المدينة في موسم الحج و غيبتهم في الثغور و الأمصار ، و ربما لم يكن في المتبقين من أهل الدينة ما يقابل عدد الخوارج الذين كانوا قريباً من ألفي مقاتل .
رابعاً : إن كبار الصحابة قد بعثوا أولادهم إلى الدار لحماية عثمان رضي الله عنه ، لكن عثمان علم أن في الصحابة قلة عدد و أن الذين يريدون قتله كثير عددهم ، فلو أذن لهم بالقتال لم يأمن أن يتلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه كثير ، فوقاهم بنفسه إشفاقاً منه عليهم لأنه راع عليهم ، و الراعي يجب عليه أن يحفظ رعيته بكل ما أمكنه ، و مع ذلك فقد علم أنه مقتول فصانهم بنفسه - حقناً لدماء المسلمين- .
خامساً : أنه لما علم أنها فتنة ، و أن الفتنة إذا سلّ فيها السيف لم يؤمن أن يقتل فيها من لا يستحق القتل ، فلم يختر لأصحابه أن يسلوا السيف في الفتنة إشفاقاً عليهم ، و حتى لا تذهب فيها الأموال و يهتك فيها الحريم فصانهم عن جميع هذا .
سادساً : يحتمل أن يكون عثمان رضي الله عنه صبر عن الانتصار ليكون الصحابة شهوداً على من ظلمه ، و خالف أمره و سفك دمه بغير حق ، لأن المؤمنين شهداء الله في أرضه .
يتبع
|