مستشار إداري
بيانات اضافيه [
+
]
|
رقم العضوية : 1920
|
تاريخ التسجيل : Nov 2008
|
أخر زيارة : 12-05-2020 (10:29 PM)
|
المشاركات :
17,650 [
+
] |
زيارات الملف الشخصي : 57997
|
الدولهـ
|
|
لوني المفضل : Brown
|
|
في بداية حياته عاش بهيئة شاب صعلوك , حفرت الذكريات في جبينه شامه , ووضعت الليالي على أحداقِه بصمة . بقِي حياته في كرٍّ وفَرّ ( فوفّر ) كرامته لنفسه .
لم يختزل من أحد مساحة في قلب , ولم يستحوذ على مساحة من عقل أحد , ولم يحالفه الحظ لنظم الشعر وإهداء الغزليات للـ(محبوبة) , بقي على عنايته بذاته ونفسه ومن يعول . لكن طيف الحلم يراوده بين الفينة والأخرى لاستقبال ما يخبؤه القدر .
وهو يقف بين جنبات طريق الحياة متعرضا لما في ذلك الطريق من أعباء و مشاقّ ومتاعب وعواصف مُنذِرةٍ بالقدوم ووعورة في طريق مُلِئ بالضنا والتعب وأحدقت به الأخطار . كان يقتات ليومه من قطع الطريق , واعتراض القوافل ونشر الرعب بين صفوف المسافرين ..!!
وذات يوم طلب منه أحد حكام عصره أن يتوب ويعود الى صوابه ورشده ففعل واعتنق مبدأ الجهاد وسعى حثيثاً اليه , وكانت معنوياته مرتفعه وطموحاته ليس لها حدود , ساعدته في تجشم ما عاناة من كبد لتحقيق غاياته وحلمه "العابر" ولكن عينه لم تكتحل بالتشاؤم لتخفي دموع الأسى . بل كان صمته يؤجج إعصاراً من الألم ويحكي معاناة أليمه في جنبات أحشائه الداخلية .
لما شارف على آخر أيام حياته وقد تعرض للدغة ثعبان سامة هاجت لديه قريحة شعرية انفجرت كلماتها في أبيات استوقفت كل قارئ لها عبر عصور التاريخ فلمَعت وتصدرت قوائم عيون الشعر العربي في الرثاء لأنه ليس ككل رثاء بل إنه اصدق ما قيل في الرثاء فرثاء النفس من أنفس من يقدّمه الانسان لنفسه وللآخرين من بعده .
يقول مستهلاً قصيدته اليتيمة :
[poem=font="Simplified Arabic,4,red,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=1 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
الا ليت شعري هل ابيتن ليلة = بجنب الغضى ازجي القلاص النواجيا
فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه = وليت الغضى ماشى الركاب لياليا[/poem]
يتفطّر قلبه أسى , ومرارة , عندما يذكر مزارات وادي الغضا وتنهمر دموعه ويتمنى ألّـو كانت قريبة ودانية من مرأى العين ..
[poem=font="Simplified Arabic,4,red,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=1 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
لقد كنت في اهل الغضا لودنا الغضا = مزار ولكن الغضا ليس دانيا
ألم ترني بعت الضلالة بالهدى = فاصبحت في جيش ابن عثمان غازيا[/poem]
تذكّر أنه سيفقد أهله وماله وكل ما يملك في لحظة وتذكّر والديه الكبيرَين المشفقيَن على هلاكه .. حتى إن دماء شرايينه تمطر وابل من التناقضات على قلبه العليل فينفجر بركان الكبَد الذي يعتريه ويتوقف فجأة ويسقط على الطريق لكن همته تتخطى كل عقبة و تقف عزيمته امام كل دماؤه التي تنزف وتسقط قطراتها على رصيف الأمل .
[poem=font="Simplified Arabic,4,red,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=1 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
فلله دري يوم اترك طائعا = بنيّ بأعلى الرقمَتين وماليا
ودر الظباء السانحات عشية = يخبرن اني هالك من ورائيا
ودر كبيري اللذين كلاهما = عليّ شفيق ناصح قد نهانيا[/poem]
يقف الإنسان أحياناً حائراً واجماً متبلّد الحسّ عندما يتخيل وفاته ومن ينعاه ويهتم بذكرة ومصيره ... !! تزداد الحسرة عندما يقلّ أحبابه وقت الشدائد فيقف الرمح والسنان صامدان , ويبقى الخيل يجرّ عنانه بصورة في غاية في الإنكسار ..
[poem=font="Simplified Arabic,4,red,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=1 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
تذكرت من يبكي علىّ فلم اجد = سوى السيف والرمح الرُّديني باكيا
واشقر خنذيذٍ يجر عنانه الى الماء = لم يترك له الموت ساقيا
ولكن بأطراف السمينة نسوة = عزيز عليهن العشية مابيا
صريع على ايدي الرجال بقفرة = يسوون قبري حيث حمّ قضائيا[/poem]
إن من مخفضات الصدمة والمصيبه وضعف وطأتها أن تحدث فجأة ولكن ( المرّ الزعاف ) عندما تستشعر قرب المنيّة وتتيقن حلولها لا محالة , وتحسّ بطعنات الموت ومصارعة آلامه وكربه ..
[poem=font="Simplified Arabic,4,red,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=1 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
ولما تراءت عند مرو منيتي=وحل بها جسمي وحانت وفاتيا
اقول لأصحابي ارفعوني لأنني=يقر بعيني ان سهيل بدا ليا
فيا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا=برابية اني مقيم لياليا[/poem]
عجيب من الإنسان أن يستجدي في أصعب لحظات حياته الأخيرة أصحابه ويطلب منهم مدّ العون والمساعدة لنفسه ويستدرّ عطفهم ويخاطب كرمهم ومحاسن ما يتحلون به من شيم ...!!! عندها تتدخل عزّة نفسه وكرامته ( المختزلة ) ؛ ليذكرهم بمجده التليد وعنفوانه وسطوته على أقرانه وفرسان المعارك في عصره .. ويفتخر بما يتحلى به من محاسن الاخلاق والجميل من الخصال ..
[poem=font="Simplified Arabic,4,red,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=1 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
أقيما علي اليوم او بعض ليلة=ولا تعجلاني قد تبين مابيا
وقوما اذا ماستل روحي فهيئا=لي القبر والاكفان ثم ابكيا ليا
وخطا باطراف الاسنة مضجعي=وردا على عيني فضل ردائيا
ولاتحسداني بارك الله فيكما=من الارض ذات العرض ان توسعا ليا
خذاني فجراني ببردي اليكما=فقد كنت قبل اليوم صعبا قياديا
فقد كنت عطافا اذا الخيل ادبرت=سريعا الى الهيجا الى من دعانيا
وقدكنت محمودا الى الزاد والقرى=وعن شتم ابن العم والجار وانيا
وقد كنت صبارا على القرن في الوغى=ثقيلا على الاعداء عضبا لسانيا
وطورا تراني في ظلال ومجمع= وطورا تراني والعتاق ركابيا
وطورا تراني في رحى مستديرة = تخرق اطراف الرماح ثيابيا[/poem]
لم يهمّه إعجاب الآخرون , بل عاش وديعاً , راسماً لنفسه ما يرغب فعله , قنوعاً الى حدٍ بعيد بما يعمل .. لم يشتكي منه احد يوماً ما , بل نعاه كل من عرف عن صدمة وفاته المفاجئة بعد ان كان يتمتع بصحةٍ جيدة وبجسمٍ مفعمٍ بالحيوية والنشاط ..
[poem=font="Simplified Arabic,4,red,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=1 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
فياراكبا اما عرضت فبلغن=بني مالك والريب الا تلاقيا
وبلغ اخي عمران بردي ومئزري=وبلغ عجوزي اليوم الا تلاقيا
وسلم على شيخي مني كلاهما=وبلغ كثيرا وابن عمي وخاليا
وعطل قلوصي في الركاب فانها=ستبرد اكبادا وتبكي بواكيا[/poem]
يصارع الإنسان في الرمق الأخير نشوة الذكرى التي تدمي قلبه , وتزيد الجرح آخر أشدّ وقعاً , إضافة الى متاعبه السابقه ؛ بسبب خوفه على أهله وأخواته ومن يهمّه أمرهم كالخالة , ويستشعر ما يجري لهم بعد وفاته فيحترق الفؤاد و( لك أن تتخيل ذلك ) ..!!
[poem=font="Simplified Arabic,4,red,bold,normal" bkcolor="transparent" bkimage="" border="none,4,gray" type=1 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
وبالرمل مني نسوة لوشهدنني = بكين وفدين الطبيب المداويا
فمنهن امي وابنتاها وخالتي = وباكية اخرى تهيج البواكيا
وماكان عهد الرمل مني وأهله = ذميما ولا ودعت بالرمل قاليا[/poem]
لقد خلّف هذا الرجل مئات التساؤلات على شفاة الآخرين وتمنى البعض لو غاص البعض في جنبات الغموض الذي يكتنف ذلك ( الشاعر المبدع ) صاحب البكائية اليتيمة .. ليجد رداً على أبسط تساؤلاته...!!!
هل هكذا تُسلب إرادة الإنسان من الوجود .. ويبقى ( خبراً لمن وعى ) ..؟؟ هل يصل الإنسان الى منتصف الطريق ..!! ويقف به قطار الزمن فجأة ليفجع الآخرين ( بصدمة ) عنيفة ..؟؟
هل رأيتم ماذا تفعل قوارع الزمن وصواديف الأقدار بكائن ( الإنسان )..؟؟
هل رأيتم شاعراً يقول أول قصيدة في عمرة في ( سكرات ) موته ..؟؟
هل رأيتم مقدار الإبداع الذي ينبض به الفكر في اللحظات العصيبة ..؟؟
هل رأيتم الدرر المكنونة في صدر ذلك الشاب ..؟؟
هل عرفتم هذا الشاعر ( الصعلوك ) في بدايته .. الذكي الأريب المبدع عند وفاته ..؟؟
إنه :
مالك بن الرَيب التميمي
المتوفي سنة 56هـ
...
|