عرض مشاركة واحدة
قديم 08-06-2009, 05:22 AM   #58
محمد بلال
مستشار إداري


الصورة الرمزية محمد بلال
محمد بلال غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1920
 تاريخ التسجيل :  Nov 2008
 أخر زيارة : 12-05-2020 (10:29 PM)
 المشاركات : 17,650 [ + ]
 زيارات الملف الشخصي : 57741
 الدولهـ
Saudi Arabia
لوني المفضل : Brown
محمود درويش لا يريد النهاية ...!





كتب جهاد فاضل - القبس الكويتية :

في «طللية البروة» وهي من قصائد محمود درويش الأخيرة، يقف الشاعر على أطلال قريته، كما وقف ذات يوم امرؤ القيس على أطلال مضارب عشيرته بسقط اللوى، وكما وقف شعراء جاهليون وغير جاهليين سواه. «البروة» هي القرية الصغيرة التي ولد فيها الشاعر. وهي تقع شرق مدينة عكا وعلى بعد كيلومترات قليلة منها، ولكنها واحدة من 500 قرية فلسطينية ازالها اليهود من الخريطة ومن والواقع ولم يبق لها من اثر الا في ذكريات من ولد ونشأ فيها ولم يزل حياً إلى اليوم.

كان محمود درويش عام 1948 ولداً في نحو الخامسة أو السادسة من عمره. في عام النكبة ذاك لجأ مع والديه إلى جنوب لبنان ولمدة بسيطة، إذ قرر الوالد العودة إلى فلسطين. عاد الجميع إلى البروة ليجدوا ان الإقامة فيها مستحيلة فلجأوا الى قرية أخرى واقاموا فيها. ومع الوقت تحولت البروة إلى قفر يخلو من الحياة.

يا صاحبيّ قفا.. يقول محمود في قصيدة البروة، تماما كما قال امرؤ القيس من قبل. يقف على أطلال ما كان يُسمّى بالبروة، ويصف ما يشاهده ويروي ذكريات طفولته فيها: «هنا وقعت سماءٌ ما على حجرٍ وأدمته لتبزغ في الربيع شقائقُ النعمان. هناك كسر الغزال زجاج نافذتي لأتبعه الى الوادي. هنا حملت فراشات الصباح الساحرات طريق مدرستي. هنا هيّأتُ للطيران نحو كواكبي فرساً».

انه يتحدث حديثا رومانسياً عذبا عن ذكريات أيامه في الطفولة، بل عن حكايته الأولى: «حليبي ساخن في ثدي أمّي، والسرير تهزّه عصفورتان صغيرتان، ووالدي يبني غدي بيديه».. وعندما يقول له سائح افتراضي يرافقه في البروة، وقد شاهده منفعلا: انتظر اليمامة ريثما تُنهي الهديل، يجيبه الشاعر: «تعرفني وأعرفها»، أي انه عرفها عندما كان في البروة. فإذا سأله هذا السائح عما اذا كان يرى خلف الصنوبرة مصنع الألبان الذي أقامه اليهود، يجيب الشاعر: «كلاّ! لا أرى إلا الغزالة في الشباك».. يقول: والطرق الحديثة هل تراها فوق انقاض البيوت؟ أقول: كلاّ لا أراها. لا أرى الا الحديقة تحتها، وأرى خيوط العنكبوت». انه يصرّ على رؤيته السابقة للبروة، ويرفض مصنع الألبان، الطرق الحديثة، إذ لا يرى في ذاكرته وأعماق نفسه سوى الحديقة التي بُنيت الطرق فوقها، كما يرى خيوط العنكبوت التي كانت من أشياء الحديقة!

لم يشاهد محمود درويش وهو يقف على البروة سوى شبحها، وأشباح ما كان ومن كان فيها، انه أسير ماضيه فيها، وأسير ذكرياته. يرفض مصنع ألبان اليهود ويرفض طرقهم الحديثة ويتشبت بما كان، ولا يريد ان يتعزّى لأن بروته قد بادت إلى الأبد!
في التوراة ترد العبارة التالية عن أم يهودية فقد أبناءها تُدعى راحيل: «راحيل تبكي على ابنائها ولا تريد ان تتعزّى لأنهم ليسوا بموجودين». محمود درويش يشبه تماماً هذه الأم الثكلى. يقف على أطلال البروة ولا يريد ان يتعزّى لأن البروة لم تعد موجودة. وهل يمكن ان يتعزّى لأن اليهود اقاموا مصنعا للألبان فوق أرض البروة، أو لأن طرقا حديثة تمرّ فوق أرض سريره الأول، ومهد آبائه وأجداده؟

حدثت مأساة في التاريخ الحديث لم يشهد العالم مثيلا لها منذ بدء الخليقة. هذه المأساة هي مأساة الشعب الفلسطيني الذي انتزعت أرضه منه وهُجّر منها، وباتت عودته إليها في ظل موازين العالم المعاصر وقواه الفاعلة، من رابع المستحيلات. الجلاد يظهر أمام العالم اليوم بمظهر الضحية التي تضطر للدفاع عن نفسها، في حين أن الضحية الحقيقية لا تجد الا في النادر من يقف الى جانبها، بل انها لا تجد أحدا لان الغالبية العظمى تقف مع عدوها، أما البقية الباقية، فإما انه لا حول ولا قوة لها، وانما هي تبحث عن عدالة صفراء شبه ميتة، أو عن حقيقة لا تلبيّ شروط الحقيقة كما هي منصوص عنها في كتاب القيم والمثل والعدالة.
على أن كل ذلك لا يفوت محمود درويش، فإذا كان قد انهى طللية البروة، بوقفة تراجيدية تعيد الحياة الى الشعر الملحمي:

اقول أرى الغياب بكامل الأدوات
ألمسه وأسمعه، ويرفعني إلى
الأعلى. أرى أقصى السماوات القصية.
كلما متُّ انتبهتُ، وُلدت ثانيةً وعدتُ
من الغياب إلى الغياب..


فإنه يعود إلى أطلال القضية كلها عندما يتحدث عن جرحه وجرح فلسطين ولا يجد قاضياً حيادياً يفصل فيها ويجري تنفيذ الحكم. يرد ذلك في «طللية» أخرى في ديوانه الأخير عنوانها:
«لا أريد لهذي القصيدة ان تنتهي». عنوان هذه الطللية: «على محطة قطار سقط عن الخريطة» يتحدث فيها عن ضياع فلسطين، ويرفض ان يصدّق ما حصل، ولا يقتنع الا بما يقوله له حدسه:

كلّ ما في الأمر أني لا أصدّق غير حدسي
للبراهين الحوار المستحيل. لقصة التكوين
تأويل الفلاسفة الطويل. لفكرتي عن عالمي
خلل يسبّبه الرحيلُ. لجرحي الأبدي محكمة
بلا قاضٍ حيادي. يقول لي القضاة المنهكون
من الحقيقة: كل ما في الأمر ان حوادث
الطرقات أمر شائع. سقط القطار عن
الخريطة، واحترقت بجمرة الماضي. وهذا لم
يكن غزواً!
ولكني أقول: وكل ما في الأمر أني
لا أصدّق غير حدسي
لم أزل حيّاً..


تفتقد قضية فلسطين، كما يقول محمود درويش، المحكمة الحيادية والقاضي المحايد. ولأن الأمر كذلك، فإن الافك أو الباطل ينجح في تصويرها وفق هواه، لا وفق مبادئ الحق والعدالة، ولكن هل يستطيع الباطل ان يصول وأن ينتصر إلى ما لا نهاية؟


 
 توقيع : محمد بلال






رد مع اقتباس