|
جن.. وخرافات من قلب الصحراء (الذئب)

[OVERLINE]يكتبها - محمـــد اليـوســـفي - صحيفة الرياض : [/OVERLINE]
في قصيدة غزلية للشاعر محمد القاضي مطلعها:
حمام ناح قاصرني بداره
يجر الصوت بغروس ربيبة
ينوح وزاد بالنوح انذعاره
يذكرني ويجرحني نحيبه
إلى أن قال:
يذكرني هوى طفل سفاره
تعرض لي ولي قلب بلي به
أرى قلبي الى ما ارخي خداره
كما الجني الى ما شاف ذيبه
وفي قصيدة غزلية للشاعر محمد الخس قال:
وإن غبت عني يا مليح الطبوعي
قامن دواليب الغرام يحدني
وأقنب كما ذيب عوى عقب جوعي
واليا عوى معه الضلوع يعوني
لا قام يقنب في طويل الفروعي
لا شاف مخلوق ولا شاف جني
في البيت الأخير للقاضي وكذلك الخس- مع اختلاف الصورتين الشعريتين- ثمة خرافة قديمة أكثر من يتداول قصص (متخيلة) على خلفيتها بسطاء من أبناء الصحراء فيصدق بعضهم أن الذئب ينفرد عن غيره من السباع بمقدرته على تتبع الجن وأكلهم، وأن الجني إذا عرض له الذئب لا يقدر على الحركة ويبقى منتظرا الذئب ليفترسه بكل سهولة! ومن هذه الخرافة يُفسر المثل الشعبي (جني وشاف ذيب) الذي يضرب لمن يجبن أو تذهب هيبته أو يحتار فلا يحسن التصرف أمام شخص بعينه أو موقف يذهل منه.
لو كتبت عبارة (الحيوان الذي يأكل الجن) في محرك البحث على الانترنت (قوقل)، ستجد أن الذئب في هذه الميزة المزعومة يتربع على أكثر من (272) ألف صفحة، منها (52) ألف صفحة من السعودية! طبعا الأرقام حتى وقت كتابة هذا المقال. والغريب أن العديد من الصفحات تعود إلى مواقع (رصينة)، ومنها مواقع ثقافية ومنتديات أدبية محل احترام، والرصانة هنا نسبية بالنظر إلى سوء الإنترنت كمصدر للمعلومة الصحيحة، وعدم قدرة كثير من المتلقين الإنترنتيين على التمييز بين المنقول من مصادر معتبرة وبين (أحاديث المجالس) والروايات المشكوك في صحتها.
لا شك أن هذه الخرافة وغيرها ولدت في بيئات جهل وترعرعت مع قصص تناقلها الناس وصدقوها على خلفية أنها رويت عن (كبار سن ثقات)، مع أن إخضاعها لمعايير المصادر العلمية المتخصصة ينفي صحتها. وبمرور الأزمان قد يمنح التكرار الرأي أو الصورة الشعرية أو الحكاية الشعبية صفة المعلومة فيتلقاها الناس كحقيقة بينما هي ليست كذلك، ورحم الله الشاعر العربي الذي بالغ في وصف حذر الذئب وراح بيت شعر تناقله الناس حتى اكتسب الوصف صفة المعلومة، حين قال:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي
بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع
أي أن الذئب ينام بعين ويفتح الأخرى، بينما الحقيقة ليست كذلك. وفيما يبدو أن سر نشأة مثل هذه الخرافات يكمن في النظرة إلى السباع بشيء من الخوف الممزوج بالإعجاب بها كونها تتفوق على الإنسان- في حقب محددة صاحبها الجهل والفوضى والصراع على البقاء- في صفات الاحتيال والمباغتة والمخاتلة والبطش فيما كان يُنظر إليه قديما على أنه ذكاء وفطنة وشجاعة وقوة في عملية الحصول على لقمة العيش، تماما مثلما يشاع بين قبائل إفريقية أن الأسود تلازمها أشباح تجعلها تفرق - إذا أقدمت على افتراس الإنسان - بين الرجل والمرأة فتأنف عن الهجوم على النساء بينما تقطع أوصال الرجال! ومثل هذه الخرافة الإفريقية كان يشاع وربما لا زال بين سكان في مناطق بالجزيرة العربية أن (القرطة) وفقا للتسمية الشعبية الدارجة، والمقصود عناق الأرض أو الوشق، وهي قطة برية أكبر حجما من القطط الأهلية ويميزها خصلتا شعر قائمتان على أذنيها، والخرافة المرتبطة بالقرطة أنها جنية تتمثل بهيئة قطة تعتدي على الرجال بالهجوم على أعضائهم التناسلية وتقتلهم، وربما كانت هذه الخرافة وراء شهوة قتلها حتى أصبحت الآن من الحيوانات المهددة بالانقراض في الجزيرة العربية. وأيضا هذه الخرافة تفسر لنا المثل الشعبي (من عاشر القرطة يلقى خرابيشه)، ولهذا المثل خصوصية في معناه؛ حيث يضرب للمعاناة التي يلقاها الرجل عندما يرتبط بزوجة سليطة لسان وكثيرة أذى.
وكانت الخرافات لا ترتبط بالسباع من الحيوانات فقط، فالثور - مثلا - في ثقافات الشعوب رمز للقوة والحياة والخصب، هذا إذا تجاوزنا الوثنيات التي تقدسه. تأمل في قول شاعرة بدوية في محبوبها:
اهرج علي ياكثير النور
لو يزعلون الحواسيدي
حبك بقلبي بنى له سور
حفر قليب وغرس غيدي
ما انساك لما يزول الثور
ولا تقطّع مجاويدي
ومعنى البيت الأخير أنها لن تنسى الحبيب إلا أن تقوم الساعة (يزول الثور) أو تموت (تقطّع مجاويدي). أما عن علاقة الثور بقيام الساعة فتلك أسطورة قديمة تقول إن (الأرض محمولة على صخرة والصخرة على قرن ثور ضخم اسمه كيوثا له أربعة آلاف عين ومثلها أنوف وأفواه وقوائم، وهو قائم على حوت كبير اسمه بهموت لو وضعت البحار كلها فى منخرة لكانت كخردلة فى فلاة، ولو تحرك هذا الثور لقامت الساعة)، وقد قال ابن القيم الجوزية حول ذلك في المنار المنيف وفي نقد المنقول والمحك المميز بين المردود والمقبول: (والعجب من مسوّد كتبه بهذه الهذيانات). وللحديث بقية.
|