المتسلقون على ظهري أشهر من نار على علم .. شاعر النشيد الوطني إبراهيم خفاجي لـ عكاظ:
كلماتي لا تباع بشيك على بياض وفي فمي ماء
عكاظ : حوار: بدر الغانمي
لم أسمع ضجيجا من رجل يضع رجله اليمنى في المقبرة والأخرى إلى الوراء كما سمعته من شاعرنا الكبير إبراهيم خفاجي، ولم أشاهد إجابة صامتة تتآكل من الألم، كما رأيتها في عيني جواهرجي الأغنية السعودية وأنا أستفز عواطفه بسؤالي: هل يعرف أبناؤنا أنك مؤلف النشيد الوطني الذي يرددونه في الطابور المدرسي كل صباح؟.. حاولت أن أتسلق الجبل الأشم الذي صعد على أكتافه طلال مداح ومحمد عبده وعبد المجيد عبد الله، وتمايل مع صوره الفنية وديع الصافي وفائزة أحمد ونجاة الصغيرة وأجيال متعاقبة على مدى نصف قرن -محليا وعربيا-، فلم أفلح في الحصول على أكثر من ملامح وإشارات وشيء من الفتات، لكنني أزعم أنها كافية لتصب الزيت على النار التي ظلت خامدة تحت الرماد. مسح بكلماته ما تبقى من بياض في الوسط الفني، وأسقط أوراق الخريف عن أشجار يظن الناس أنها ما زالت مثمرة عندما قال: «في رقبتي بيعة لا تباع رغم محاولة بعض الخليجيين شراءها بشيك على بياض»، في الوقت الدي سقط فيه الفنانون أسرى للدينار والدرهم، وتمادى في صراحته ناسفا بيته الشهير «إذا لعب الهلال فخبروني» بقوله: لم أكن هلاليا في يوم من الأيام لأسقط شعري حكرا على الهلال، فأنا كفنان ملك لكل أندية الوطن، إنما كان شعري حديث مناسبة فقط. حوار فيه من المرتدات والمفاجآت ما يتجاوز أكثر من مجرد الكلمات، بدأناه بتلمس طريق البدايات..
ولدت في حارة سوق الليل، حيث ولد الرسول وهذا يكفيني، أو حي شعب بني عامر الذي اشتهر بالحصار المفروض على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته في شعب بني عامر في أسرة ترتبط بعلاقة وثيقة بالثقافة والأدب والفن؛ فوالدي وجدي لأبي كانا عازفي ناي في فرقة النوبة (الشرطة)، كما كان خالي أحمد الشعار وجده لوالدته إبراهيم الشعار عازفي ناي أيضا، كما اشتهرت منطقة سوق الليل في مكة المكرمة في تلك الحقبة بضم أشهر الفرق المؤدية لغناء يماني الكف، فعاصرت حسن جاوة، وفهيد أبو حميدي، وإسماعيل كردوس، ولم تكن تجارة والدي وعمي في صياغة الذهب تحقق مردودا ماليا بسبب الحرب العالمية الثانية، فقررت أن أبحث عن عمل وتركت حلقات العلم واتجهت لمدرسة اللاسلكي والشعر، ليس كرها في العلم في الحرم، إذ يكفيك أن تخرج نصف عالم من الدروس التي كانت موجودة في تلك الأيام، ولكن الحاجة وضيق ذات اليد دفعاني للهروب من الفقر في وقت كانت فيه الحكومة توزع على الناس السكر والشاهي والخبز لكي لا يموتوا جوعا، ولم يكن هناك أحد معه فلوس في تلك الأيام. تصور زفة الموية بست هللات، والقربة بريال في الشهر مع أن الراتب لا يتجاوز 15 ريالا فقط . لذلك عندما يسألونني الآن عن سبب عدم بيعي لكلماتي أعيدهم وأذكرهم بالبيعة التي أتحملها في رقبتي لهذا الوطن الذي عشت معه خطوات البناء والانتقال يوما بيوم وسأظل وفيا له بكلماتي حتى يتغمدني الله برحمته.
• الملاحظ أن شعرك أصبح مثل الفاكهة السنوية في الفترة الأخيرة؟
ــ إنتاجي كان غزيرا في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات الهجرية، لارتباطه بحماس سن الشباب بما له من وفر وما فيه من تخيلات، والشاعر يقول:
ياللشباب المرح التصابي
روائح الجنة في الشباب
والحقيقة أن الفترة التي بدأت فيها وعمري 16 سنة؛ أي قبل 70 عاما من الآن، لم يكن فيها الاهتمام بالشعر بالصورة نفسها التي كانت عليها، بدءا من السبعينيات الهجرية، حيث كان الإقبال شديدا وكنت أكتب بشكل يومي. وقد عاصرت السنوات العجاف التي مرت بها بلادنا والنهضة الحضارية التي وصلت إليها يوما بيوم، وفي رقبتي بيعة لا يتوقف معها عطائي حتى يتغمدني الله برحمته. ربما تراجع الكم الإنتاجي بسبب تقدمي في السن، لكن تظل الكتابة تسري في دمي وجودتها من حسن إلى أحسن، وسأظل أقدم تحياتي إلى وطني دون أي رياء أو نفاق.
• يقال إنك مخاوي الجن في تلك الفترة؟
ــ هذا كلام ردده الناس وفكر ساد في السابق، لكنه غير صحيح ولم يمر علي ولا أعرفه، لكنني أعتبر أن الشعر إلهام من الله وسرعة بديهة، وأنا لست شاعرا فقط، بل كنت وما زلت في الملعبة أرد وأعرف الغطو والغبو وماذا يقول الشعراء، ومن الأشياء التي ساهمت في نضوج رؤيتي للصورة الشعرية أن والدي -رحمه الله- ظل يأخذني معه إلى ملاعب الشعراء ويشرح لي الصور الشعرية وأساليب الردود لمن يدافع عن نفسه وعن قبيلته، وقد أثرت هذه الفترة في شعري كثيرا، وأنا أعتز بتجربتي ومعاناتي الخاصة التي عايشت فيها نشأة بلادنا حتى الآن، فانعكست على شعري بكثير من النضج والشمول.
• هذا يعني أن شعرك ينطلق دائما من معاناة؟
ــ إلى حد ما، لكن تظل معالمي الشعرية وصفية لمعاناة الآخرين أكثر من معاناتي الشخصية وأجسدها في صورة أغنية ليتغنى بها كل إنسان.
• يقال إن قصائدك الحبيسة أكثر من المطلقة؟
ــ هذا صحيح، ولدي من القصائد ما لا يمكن نشره؛ لأنه يضعني في مآزق أنا في غنى عنها.
• لكنك لم تكتب شعرا سياسيا رغم معاصرتك لكثير من الأحداث السياسية المحلية والعربية والعالمية على مدى قرن تقريبا، لماذا؟
ــ أنا لا أحب اللعبة السياسية التي تعتمد على المصالح المتغيرة بين اليوم والغد، ولا أستطيع أن أكون مثل أدونيس عندما شتم العرب ثم مدحهم عندما زار دولة عربية مجاورة فاتهموه بالدجل، وأنا لا أحب الميل إلى جهة دون أخرى وتوظيفها في شعري.
• ما سبب تحولك إلى الشعر البيني الذي يجمع العامي والفصيح والذي فسره البعض بعدم قدرتك على مجاراة لشعراء الفصحى في تلك الفترة؛ مثل حمزة شحاتة ومحمد حسن فقي وغيرهما؟
ــ ليس عجزا عن مجاراتهم، لكنه شعر لا أرفضه ولا أدعيه، وأنا أكتب الشعر مثل أي شاعر مقفى وموزون، وهوايتي كلها المغنى، تجد رنينا غنائيا في شعري المقفى، لذلك لم يجد محمد عبده في حفلة التراث العربي في المغرب صعوبة في غناء قصيدتي التي قلتها عن المغرب في السبعينيات التي يقول مطلعها:
ودع اليأس وسافر واغترب
واشتر الحسن بأرض المغرب
دارها البيضاء فردوس الدنا
هي مهوى الغيد للمستعرب
جمعت في غيدها كل المنى
فتنة الغرب ونطق العربي
وكانت ردود فعل الصحافة المغربية للقصيدة الوصفية كبيرة، وكتب عنها ما لم يكتب في قصائد قالها شعراء أكبر وأشهر مني في تلك الفترة، والسبب أنني كتبت كلماتها على الرنين الغنائي الذي أجيده.
• الصور الشعرية موهبة أم تعلم؟
ــ الشعر يتم بالموهبة والتعلم وأنا لا أنكر ما قدمه لي أستاذي حسين سرحان من توجيه للتميز في الصورة الشعرية، وأتذكر في تلك الأيام القصيدة التي قالها قاسم أمين في زوجة النحاس باشا، وكان الحجاب منتشرا في مصر في تلك الفترة فقال:
ارفعي الستر وحيي بالجبين
وأرينا فلق الصبح المبين
فأعجبتني قدرته التصويرية فقلت للأستاذ حسين سرحان: عندي رد عليها يقول:
اطلق الأنظار من ساحتها
فلقد آن لها أن تستكين
فالشعر مداخلات وأنا تعلمته في المدرسة مع أستاذي عبد الرحمن أسعد بطريقة القصائد المطرزة التي تقال في المجسات ومناسبات الزواج، وأسمع أغنية كوكب الأرض التي تغنى بها محمد عبده وسموها أغنية سياسية ماذا تقول:
كوكب الأرض عزيز في المدار
وبلاد النور غرة كوكبي
بعث المختار فيها واستدار
زمن الحب بتاريخ النبي
هذه القصيدة تكلمت فيها عن الإرهاب قبل ظهوره بـ20 عاما، وفيها من الصور ما يستدير به العقل.
• لكن الملاحظ أن شعرك يدور في فلك المحلية وليس له انتشار عربي؟
ــ أنا لا أتعامل مع الفنانين والفنانات إنما مع الملحنين، وقد تعاملت مع عدد كبير من فناني الدول العربية خصوصا لبنان ومصر.
• لم تغنِ لك أم كلثوم أو فيروز مثلا؟
ــ منهجي الغنائي ليس مركزا على البحث عن شهرة، ولو كنت كذلك لما خرجت الأسماء الشابة التي تنتشر اليوم في الساحة العربية، وأنا تعاونت مع الأخوة المصريين، وهناك تترات كتبتها للفنانة شريفة فاضل لكنها لم تنشر، وبالنسبة لأم كلثوم فقد كان صبحي الصحراوي، ابن بلدها، صديقا لي وحدثها عني فقالت له: طيب، ولكن لم يحدث شيء.
• ليه؟
ــ لأن هؤلاء الفنانين يحتاجون إلى تزلف ويحبون من يدفع لهم، خصوصا أن السعودي في تلك الفترة كان محاطا بإشاعة أن عنده بئر بترول خاصة به.
• مع أن عبد الوهاب محمد من المعجبين بك؟
ــ جدا، وقال لي في إحدى المرات أنا أؤمن بصورة أخذت مزاجي في كلمات أغنية لفائزة أحمد وطلال مداح قلت فيها:
تصدق والا أحلف لك
عجزت بلساني أوصف لك
نعيم الحب في قربك
وإنت كريم في أصلك
ودا قلبي على يدي
وهو أغلى ما عندي
وتبغى زيادة في حبك
أجيب لك قلب ثاني منين
عبد الوهاب اتجنن على صورة «ودا قلبي على يدي وهو أغلى ما عندي»، لذلك عندما تسمع الأغنية انتبه لصورها الشعرية إن وجدتها فهذا سرها.
• كيف نجحت في تركيب الكلمات على النشيد الوطني الذي عجز عنه كبار الشعراء؟
ــ عندما عرض موضوع تركيب الكلمات على الشعراء الكبار؛ مثل أستاذي ومعلمي حسين سرحان والأمير عبد الله الفيصل ومحمد حسن فقي، قالوا إن تركيب الكلمات على موسيقى المارشات العسكرية غير ممكن، ولو أردتم أن نعمل لكم سلاما جديدا بأي كلمات من الشعر فيمكن ذلك، ولكن رفضت الفكرة؛ لأن السلام الوطني الحالي مرتبط بالملك عبد العزيز وتأسيسه لهذه البلاد، فاقترح عليهم الأمير عبد الله الفيصل ومعه حسين سرحان اسمي إن كانوا يريدون تركيب الكلمات على اللحن، وفي تلك الفترة لم أكن معروفا بما فيه الكفاية فتأجل الموضوع وتجدد في عهد الملك فهد رحمه الله.
|