ليلى الأخيلية.. شاعرة يحتكم الشعراء إليها
وادي الدواسر {العقيق قديما} موطن ليلى الأخيلية
إعداد صالح السعيدي - القبس :
الحدث التاريخي هو نواة التاريخ وسبب قيامه، والتاريخ في صفحاته متعدد الاتجاهات، والابطال هم الذين يصنعون تاريخهم، ومثلما وجد أبطال من الملوك والأمراء والقادة والفرسان والشعراء من الرجال والنساء الذين أوفاهم التاريخ والمؤرخون حقهم ونالوا مكانتهم المميزة في الذاكرة الشعبية، وشاعت سيرهم وحفظت أخبارهم في سجلات المؤرخين وعند الخاص والعام، فان كثيرين غيرهم من المغمورين في التاريخ الذين لا يقلون عن هؤلاء بطولة وتأثيرا لم يأخذوا حقهم في الشهرة في الذاكرة الشعبية ولم تنل سيرهم وأفعالهم حظها في الذيوع، أو ان انتشارها ظل محصورا في إطار مكاني محدود وفي افق معرفي ضيق.
وقد يكون مرد ذلك لعدة أسباب منها طغيان أحداث كبرى واشتهار شخصيات أخرى في زمنهم، مما كانت شهرتهم على حسابهم، أو سقوط أماكنهم ومناطقهم في دائرة الإهمال والنسيان لبعدهم عن مواطن الحضارة ومراكز المعرفة، ولا يعني ذلك أنهم مجهولون تماما.
قد يكون هؤلاء المغمورون معروفين لدى أهل العلم من المتخصصين والباحثين أو يكونون مشهورين في بلدانهم أو طوائفهم أو جماعاتهم، لكن سيرتهم لم تتجاوز الإطار الجغرافي أو الزماني الذي صنعوا أحداثه. ومن اجل هؤلاء الأبطال المغمورين في التاريخ نقدم هذه السلسلة. والى شخصية اليوم:
هي ليلى بنت عبد الله بن الرحال، وقيل ابن الرحالة بن شداد بن كعب بن معاوية (الأخيل) ابن عبادة بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، من النساء المتقدمات في الشعر، مشهورة بين الأمراء والخلفاء في العصر الاموي.
حظيت بمكانة وتقدير، وكانت تُسم.ـع الخلفاء شعرها، سواء كان من الرثاء أو المديح، فنالت منهم الأعطيات والرغبات. ولمكانتها في الشعر كان الشعراء يحتكمون إليها، وكانت تفاضل بينهم، بل دخلت مع بعضهم في معارك شعرية مثل ما حدث لها مع النابغة الجعدي الشاعر الذي هجاها وهجته وغلبته.
اعتبر الرواة والاخباريون أن ليلى الأخيلية فاقت أغلب الفحول من الشعراء، وشهدوا لها بالفصاحة والإبداع، وبعضهم كان يقدمها على الخنساء. فمرة كان أشراف قريش مجتمعين في مجلس يتذاكرون الخنساء والأخيلية، ثم أجمعوا على أن الأخيلية أفصحهما، وإن ليلى أكثر تصرفاً وأغزر بحراً وأقوى لفظاً، ولكن الخنساء أغلب قصائدها الرثاء.
ومن الشعراء الذين اعجبوا بشعرها الفرزدق حتى أنه فضل ليلى على نفسه، وأبو نواس الذي حفظ عديدا من قصائدها، وأبو تمام الذي ضرب بشعرها المثل، وأبو العلاء المعري الذي وصف شعرها بأنه حسن ظاهره.
حب يائس
عرفت ليلى الاخيلية بحبها لابن عمها توبة بن الحمير الذي نشأت معه منذ صغرها. وكان توبة من الفرسان المغامرين، مبارزا في قومه، سخياً فصيحا مشهورا بالمكارم وحسن الخلق ومحاسنها. وكان قومه يقيمون في جوار منازل بني الاخيل، أهل ليلى التي ذاع ذكرها بالحسن والجمال وبيانها وفصاحتها وحفظها انساب العرب وأيامها واشعارها.
وكان توبة يعشق ليلى ويقول فيها الشعر، وكان معتاداً على زيارتها، ولما كثرت زياراته عاتبه أخوها وقومها، فتقدم ليخطبها من أبيها، لكنه رفض أن يزوجه إياها على عادة العرب لانه تشبب بها وذكرها في شعره، وقام بتزويج ليلى من أحد بني الأدلع من بني عقيل بن كعب.
مصرع توبة
كان توبة أيضاً يغير زمن معاوية بن أبي سفيان على قضاعة وخثعم ومهرة وبني الحارث بن كعب. ثم حدث ان ثار نزاع داخلي في قبيلة بني عقيل بن كعب، بعدما هاج بين توبة بن الحمير وبين السليل بن ثور بن أبي سمعان بن عامر بن عوف بن عقيل كلام، وكان شريراً ونظير توبة في القوة والبأس، إلى أن أوعد كل واحدٍ منهما صاحبه، فالتقى بعد ذلك توبة والسليل على غديرٍ من ماء السماء، فرمى توبة السليل فقتله. فاقتتل بنو خفاجة بن عمرو بن عقيل، وهم جماعة توبة بن الحمير مع جماعة السليل بني عوف بن عامر بن عقيل.
ومر توبة برجل من بني عوف بن عامر بن عقيل متنحياً عن قومه، فقتله توبة وقتل رجلاً كان معه. وعندما بلغ بني عوف بن عامر بن عقيل الخبر، ركبوا في طلب توبة فأدركوه في أرض قومه بني خفاجة، وقد أمن في نفسه فنزل، وقد كان أسرى يومه وليلته، فاستظل ببرديه وألقى عنه درعه وخلى عن فرسه تتردد قريباً منه ونام. فأقبلت بنو عوف بن عامر متقاطرين لئلا يفطن لهم أحد، فارتقى توبة فوقها ينظر الطلب، فرآه القوم ولم يرهم عند طلوع الشمس، فنظر رفيق لتوبة فأبصر رجلاً منهم وعاد إلى توبة فأنبهه.
فقال توبة: ما رأيت؟ قال: رأيت شخص رجلٍ واحد. فنام ولم يكترث له، وعاد رفيقه إلى مكانه فغلبته عيناه فنام، فأقبل القوم على تلك الحال فلم يشعر بهم احد. فلما سمع توبة وقع الخيل نهض وهو وسنان، فلبس درعه على سيفه ثم نادى على فرسه فأتته، فلما أراد أن يركبها أهوت ترمحه ثلاث مراتٍ، فلما رأى ذلك لطم وجهها فأدبرت، وحال القوم بينه وبينها. وشد عبد الله بن سالم من بن بني عوف بن عامر على توبة فطعنه فقتله.
وفاتها
ذكر ابي الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني: «أن ليلى الأخيلية أقبلت من سفرٍ، فمرت بقبر توبة ومعها زوجها وهي في هودجٍ لها. فقالت: والله لا أبرح حتى أسلم على توبة. فجعل زوجها يمنعها من ذلك وتأبى إلا أن تلم به. فلما كثر ذلك منها تركها، فصعدت أكمةً عليها قبر توبة، فقالت: السلام عليك يا توبة.
ثم حولت وجهها إلى القوم فقالت: ما عرفت له كذبةً قط قبل هذا. قالوا: وكيف؟
قالت:
ولو أن ليلى الأخيلية سلمت
علي ودوني تربة وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا
إليها صدىً من جانب القبر صائح
وأغبط من ليلى بما لا أناله
ألا كل ما قرت به العين صالح
فما باله لم يسلم علي كما قال!
وكانت إلى جانب القبر بومة كامنة، فلما رأت الهودج واضطرابه فزعت وطارت في وجه الجمل، فنفر فرمى بليلى على رأسها، فماتت من وقتها، فدفنت إلى جانب قبره.
ليلى الأخيليّة والحجّاج
في مجلس الحجاج بن يوسف، وعنده وجوه النّاس وأشرافهم، دخل عليه الحاجب فقال: بالباب امرأة تهدر كما يهدر البعير الناد. قال: أدخلها.
فدخلت امرأة طويلة دعجاء العينين، حسنة المشية، حسنة الثغر، وعند دخولها سلمت فرد عليها الحجاج ورحب بها فعرفت نفسها.
قال الحجاج: هذه ليلى الاخيلية التي تقول:
نحن الأخايل لا يزال غلامنا
حتى يدب على العصا مشهوراً
وبعد جلوسها سألها الحجاج عن سبب مجيئها، فقالت السلام على الامير والقضاء لحقه والتعرض لمعروفه، قال لها فاخبريني عن الارض، قالت : الارض مقشعرة والفجاج مغبرة، وذو الغنى مختل وذو الحد منفل،قال الحجاج وما سبب ذلك؟قالت: أصابتنا سنون مجحفة مظلمة لم تدع لنا فصيل ولاربعا، ولم تبقي عافطة ولا ناقطةً، فقد أهلكت الرجال، ومزقت العيال، وأفسدت الاموال.
واستأذنته في الإنشاد، فأذن لها، فأنشدته قصيدةً مدحته بها:
أحــجاج لا يفـلل سلاحك
إنما المنـايا بكـف الله حيث تراها
إذا هبـط الحجاج أرضاً مريضة
تتبـع أقصـى دائـها فشفـاها
شفاها من الداء العضال الذي بها
غـلام إذا هـز القنـا سقـاها
سقاها دمــاء المارقين وعلـها
إذا جمحت يوماً وخفيـف أذاها
فقال الحجاج لها: إن شبابك قد ذهب، واضمحل أمرك، فأقسم عليك إلا صدقتني، هل كانت بينكما ريبة قط أو خاطبك في ذلك قط؟
فقالت: لا والله أيها الأمير، إلا أنه قال لي ليلةً وقد خلونا كلمةً ظننت أنه قد خضع فيها لبعض الأمر، فقلت له:
وذي حاجةٍ قلنا له لا تبح بها
فليس إليها ما حييت سبـيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه
وأنت لأخرى فارغ وحلـيل
فلا والله ما سمعت منه ريبةً بعدها حتى فرق بيننا الموت.
فقال لها أحد الجالسين، وهو أسماء بن خارجة الفزاري: أيتها المرأة إنك تصفين هذا الرجل بشيء ما تعرفه العرب عنه.
فقالت: أيها الرجل هل رأيت توبة قط؟ قال: لا.
فقالت: أما والله، لو رأيته لوددت أن كل فتاة شابة في بيتك حامل منه.
فكأنما فقئ في وجه أسماء بن خارجة حبّ الرمان (أي احمر وجهه من الخجل).
فقال الحجاج لحاجبه: اذهب فاقطع لسانها.
فدعا لها بالحجام ليقطع لسانها، فقالت: ويلك! إنما قال لك الأمير اقطع لسانها بالصلة والعطاء، فارجع إليه واستأذنه.
فرجع إليه، فاستشاط الحجاج عليه غضبا وهمّ بقطع لسانه، ثم أمر بها فأدخلت عليه، فقالت: كاد وعهد الله يقطع مقولي:
حجاج أنت الذي لا فـوقـه أحـد
إلا الخليفة والمستغفر الصـمـد
حجاج أنت سنان الحرب إن نهجت
وأنت للناس في الدواجي لنا تقـد
ليلى وعبدالملك بن مروان
دخل الخليفة عبدالملك بن مروان على زوجته عاتكة بنت يزيد، فرأى عندها امرأة بدوية فسألها: من أنت؟ فقالت: أنا الوالهة، الحرى ليلى الأخيلية.
قال: أنت التي تقولين:
أريقت جفان ابن الخليع فأصبحت
حياض الندى زالت بهن المراتب
(ومعنى البيت هو أن الكرم مات بموت توبة بن الحمير. والخليع هو احد أجداد توبة بن الحمير).
قالت: أنا الذي أقول ذلك.
قال عبدالملك: فما أبقيت لنا.
قالت: الذي أبقاه لك نسبا قرشيا وعيشا رخيا وامرأة مطاعة.
قال عبدالملك: أفردته بالكرم.
قالت ليلى: أفردته بما أفرده الله به
فغضبت عاتكة لتقديمها أعرابيا جلفا على أمير المؤمنين، وخاطبت زوجها الخليفة: لست لك، إن انت قضيت لها حاجة من حاجتها.
فوثبت ليلى قائمة منشدة أبيات منها:
ستحملني ورحلي ذات وخد
عَلَيْها ب.نْتُ آباءٍ ك.رام.
إذا جعلت سواد الشأم جنباً
وغُلّق دونَها باب اللّئام.
فليسَ بعَائدٍ أبدا إليه.م
ذوُو الحَاجات. في غَلَس. الظَلاَم.
أعات.ك لَوْ رَأَيْت. غَدَاة ب.نا
عَزاءَ النّفْس. عنكُمُ واعْت.زام.ي
إذاً لعَل.مْت. واسْتَيْقَنْت. أنّي
مشَيّعة ٌ ولم تَرْعَيْ ذ.مامي
أأجعلُ مثلَ توبة في نداه
أبا الذبان فوه الدهر دامي
معاذ الله عسفت برحلي
تُغذُّ السَّيرَ ل.لبَلد. التّهام.ي
أقلت.: خَل.يفة فَس.واه أحْجَى
ب.إمْرَته. وأولى باللَّئام.
ل.ثام الملك حين تُعَد كعبٌ
ذوو الأخْطار. والخُطَط. الجسام.
والمعروف أن الخليفة عبد الملك بن مروان كان منتن الفم، كريه رائحته، يتساقط الذبان عليه فيموت.
الشخصية
ليلى الاخيلية شاعرة من العصور الإسلامية المبكرة. ولدت عام 15 هجري في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وعمرت إلى عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان.
وهي من النساء المتقدمات في الشعر، لكنها لم تحظ بالشهرة الكافية لعدة أسباب، منها كونها امرأة بين كم كبير من الشعراء الرجال، ولعدم تدوين شعرها في ديوان مكتوب، ولكونها عاشت مع قومها في البادية بعيدا عن مراكز الحضارة والعلم والتدوين المعروفة في وقتها، مثل مدن الكوفة والبصرة والعاصمة دمشق.
وردت أخبارها في أشعار النساء للمرزباني، وذكر الأصفهاني صاحب الأغاني تفصيل قصتها مع توبة بن الحمير.
مع الخليفة معاوية بن أبي سفيان
سأل معاوية بن أبي سفيان ليلى الاخيلية عن توبة بن الحمير، فقال: ويحك يا ليلى! أكما يقول الناس كان توبة؟
قالت: يا أمير المؤمنين ليس كل ما يقول الناس حقاً، والناس شجرة بغي يحسدون أهل النعم حيث كانوا وعلى من كانت. ولقد كان يا أمير المؤمنين سبط البنان، حديد اللسان، شجاً للأقران، كريم المخبر، عفيف المئزر، جميل المنظر. وهو يا أمير المؤمنين كما قلت له.
قال: وما قلت له؟
قالت قلت ولم أتعد الحق وعلمي فيه:
بعيد الثرى لا يبلغ القوم قـعـره
ألد ملد يغلب الحـق بـاطـلـه
إذا حل ركب في ذراه وظـلـه
ليمنعهم مما تخـاف نـوازلـه
حماهم بنصل السيف من كل فادحٍ
يخافونه حتى تموت خصـائلـه
فقال لها معاوية: ويحك! يزعم الناس أنه كان عاهراً خارباً. فقالت:
معاذ إلهي كـان والـلـه سـيدا
جواداً على العلات جماً نوافلـه
أغر خفاجياً يرى البخـل سـبةً
تحلب كفاه النـدى وأنـامـلـه
عفيفاً بعيد الهم صلبـاً قـنـاتـه
جميلاً محياه قلـيلاً غـوائلـه
وقد علم الجوع الذي بات سـارياً
على الضيف والجيران أنك قاتله
وأنك رحب الباع يا توب بالقرى
إذا ما لئيم القوم ضاقت منازلـه
يبيت قرير العين من بات جـاره
ويضحي بخيرٍ ضيفه ومنازلـه
فقال لها معاوية: ويحك يا ليلى! لقد جزت بتوبة قدره. فقالت: والله يا أمير المؤمنين لو رأيته وخبرته لعرفت أني مقصرة في نعته وأني لا أبلغ كنه ما هو أهله.
فقال لها معاوية: من أي الرجال كان؟
قالت:
أتته المنايا حين تم تـمـامـه
وأقصر عنه كل قرنٍ يطاوله
وكان كليث الغاب يحمي عرينه
وترضى به أشباله وحلائلـه
غصوب حليم حين يطلب حلمه
وسم زعاف لا تصاب مقاتلـه
فأمر لها الخليفة بجائزة عظيمة.
من رثائها لتوبة
أقسمت أرثي بعد توبة هالكاً
وأحفل من دارت عليه الدوائرُ
لَعَمْرُكَ مَا ب.المَوْت. عارٌ عَلَى الفَتَى
إذا لم تصبه في الحياة المعايرُ
وَمَا أَحَدٌ حَيٌّ وإ.ن عاشَ سال.ما
بأخلد ممن غيبته المقابرُ
ومَنْ كانَ مما يُحد.ثُ الدَّهْرُ جَازعا
فلا بُدَّ يَوْمَاً أن يُرى وهو صابرُ
وليس لذي عيش عن الموت مقصر
وليس على الأيام والدهر غابرُ
وكل شباب أو جديد إلى بلى
وكل امرئ يوماً إلى الله صائرُ
ولكنَّما أَخْشى عَلَيْه قَب.يلة
أخا الحرب إن دارت عليك الدوائرُ
فَآليْتُ لا أَنْفَكُّ أَبْك.يكَ ما دَعَتْ
على فنن ورقاء أو طار طائر
|