◆ ينظر البعض الى جهودك في مجال الشعر النبطي كمحاولة فريدة لتأسيس مدرسة نقدية لهذا الشعر، وأنت قلت ونظَّرت وكتبت أن الشعر النبطي لا يختلف عن الشعر العربي الفصيح، ما هي مبرراتك في تبني وجهة النظر هذه؟
◆ لقد اتضح لي أن الشعر النبطي له بالفعل ضوابط وقوانين وأسس على صعيد البناء الفني والصور الشعرية والبحور والقوافي وغيرها، وهي ضوابط في غاية الصرامة لست أنا من وضعها بل أهل هذا الشعر. أنا فقط كشفت عنها وقعَّدتها. وحين أوغلت في دراسة هذا الشعر كنت أجد شيئاً غريباً من حيث أفقه المجتمعي واستمراريته. فالناس ظلوا منذ ألف سنة على الأقل يحملونه ويتناقلونه بسهولة ويسر، ومن المدهش كيف يحافظون على هذه الدقة في القول والتلقي وكيف يحافظون ايضاً على الأسس الاولى له وهي الأسس التي قام عليها الشعر العربي الفصيح. إن تفعيلات الخليل هي الأساس في الشعر الفصيح والشعر النبطي لكن الأول ظل مقيداً بضوابط القيمين عليه الذين منعوا تطويره وتوسيعه من داخله وظلت بحوره الستة عشر هي نفسها مع تفرعاتها التي تصل الى 121 فرعا. بينما رصدت في النبطي 47 بحراً في دراستي السابقة وبين يدي الآن أكثر من 75 بحراً أساسيا كلها تستند الى القوانين والأسس الفنية نفسها في الشعر العربي علاوة على ما لها من عشرات الفروع والتنويعات الوزنية. الفارق بين شعراء الفصحى وشعراء النبط أن شعراء النبط فتحوا أمامهم أبواب البحور المهملة والمقلوبة والمفترضة وزاوجوا بين التفعيلات وقلبوا البحور وزادوها وأنقصوها فخرجت لنا منظومة موسيقية هائلة كلها تنتمي الى الأذن العربية الأصيلة التي كانت موجودة في الجاهلية ولم تشذ عنها في شيء. وهذا في رأيي من الذكاء الفطري العربي الجمعي الذي افتقده شعراء الفصحى كأفراد. ما أود قوله أنه إذا كان شعراء الفصحى قد ضاقوا ببحور الشعر وعروضه فذهبوا الى الغرب يستقون منه وغيروا بنية القصيدة العربية واسسها الفنية فإن شعراء النبط فعلوا ذلك في إطار الشعر العربي، وتنقلوا بين التفعيلات. لقد صنعوا من فاعلات على سبيل المثال عشرين منظومة وزنية وهذا يدل على إحساس نام جداً بالموسيقى الشعرية ولكن النقاد والدارسين أهملوه وأشاحوا بأعينهم عنه للأسف بدعوى أنه جاء على لسان شخص عامي لا يكتب ولا يقرأ، ونظروا إليه على أنه من سقط المتاع او ماشابه.. لكن في حقيقة الامر كان شعراء النبط أكثر عمقاً وتشبثاً وأكثر دراية بالمساحة الموسيقية التي يشتغلون فيها شعرياً.
ثراء أم فوضى!!
◆ لكن البعض لا يرى في هذا الثراء الذي تتحدث عنه أكثر من فوضى كلامية، ما رأيك؟
◆ من يقولون إن هذا الشعر فوضى كلامية أظن أن عليهم ان يراجعوا انفسهم، لأن هذا الشعر له أسس فنية وأسس بنائية وأسس موضوعية معروفة ودقيقة بحيث يمكن محاكمة القصيدة بناء عليها، تماماً كما في شعر الفصحى. وهذه واحدة من الأهداف او المنطلقات التي تأسس عليها برنامج شاعر المليون. وأنا الآن بصدد كتاب موسوعي اسمه “معايير الشعر النبطي” اتطرق فيه الى كل ما يتعلق بالشعر النبطي من أسس. ومن يقول إن هذا الشعر فوضى كلامية عليه أن يقرأ مقدمة هذا الكتاب فقط. هذا فن جميل وأدب له أسس وفنون لها من الدقة على المستوى التطبيقي ما يفوق ما هو موجود في الفصحى وأنا مسؤول عن كلامي. يكفي أن أذكر لك أنني عندما انتهيت من تناول موضوع القافية وجدت لدي 700 صفحة تتحدث عن معايير القوافي في الشعر النبطي. ثمة مسألة أخرى مهمة وهي أنني لا أفتخر بهذا الشعر كشيء شخصي. بل يعنيني هذا الإنتاج الجمعي، وهذه العقلية العربية المبدعة التي تمكنت من إبداعه وحفظه لتوصله لنا. ولا يجوز أن نلقي به في سلة المهملات في حين أنهم في الغرب يبحثون في ركام ذاكرتهم الشعبية عن شيء ذي قيمة حتى يبرزوه، فيما نحن نلقي بنصف ثقافتنا الى المزابل بحجة أنها مكتوبة بالعامية. لا أريد أن أظهر وكأنني أشجع العامية أو أنني في عداء مع الفصحى لأنني شديد الاعتداد باللغة العربية الفصحى وهي هويتي وذاتي الثقافية لكن لا يجوز ان نلغي الفنون التي قيلت بالعامية لأنه لا يوجد عليها ضمة ولا كسرة. كما لا يجوز تقسيم الثقافات على أساس فتحة وكسرة وضمة. ثم إن لدينا 1500 سنة من الآداب العربية المدونة لو أردنا البحث عن اثرها في آداب الأمم الاخرى، ماذا نجد؟
سنجد أن ألف ليلة وليلة قد ظهرت في آدابهم وأشعارهم ومسرحياتهم وموسيقاهم وفنونهم، وحكاية قيس وليلى وكلتاهما تنتمي الى الأدب الشعبي. كذلك سيرة عنترة وسيرة بني هلال بل إنني أزعم أن سيرة بني هلال هي الوحيدة الآن التي توحد بين الشعوب العربية في كل مكان. وهي موجودة في المغرب والمشرق من طنجة إلى أبوظبي حيث تحورت لكي تناسب كل مجتمع في خصوصياته لكن عمودها الفقري هو نفسه. بالمقابل كم وصل من شعراء الفصحى وكم منهم ترك أثراً في الآداب الأخرى؟!. لقد أدرك ابن خلدون هذه القضية منذ ثمانمئة عام وثمن الشعر العامي وقال إنه لا يجوز الحكم على الشعر من خلال حركات الإعراب. فالادب أدب واللغة لغة والنحو نحو ولكل مجاله ووظائفه. مرة أخرى لست ضد شعر الفصحى لكنني ضد الإجحاف والإهمال الذي تعرض له الشعر العامي بشكل عام والشعر النبطي بشكل خاص وغير ذلك من مفردات الثقافة الشعبية العربية.
◆ يرى آخرون أن هذا النهج في حال سلكه شعراء الفصحى كان سيعفي الشعر العربي من مشكلات كثيرة أقلها ما يشكوه من عزوف الجمهور ونخبوية متلقيه وتراجع تأثيره لدى الناس، ماذا ترى؟
◆ هذا ما قلته وأقوله. بصراحة شعراء النبط استطاعوا أن يتوسعوا في الموسيقى الشعرية وأن يبقوا في الأذن العربية ولم يخرجوا عنها لا في البناء ولا في الإطار ولا في الإيقاع. لقد ظلوا في الاطار الفني وانطلقوا الى آفاق رائعة وكأنها شجرة باسقة على نفس الجذع او نفس الجذر وهو شعر الفصحى. مرة أخرى لا أريد أن أبدو وكأنني مناصر للشعر النبطي ضد الفصحى، لكنني لا استطيع إنكار المأزق الذي يعيشه الشعر العربي. لقد كنا نحرص في الموسم الثقافي لوزارة الإعلام لسنوات طويلة على إحضار شعراء الفصحى من كل الدول العربية والمغتربات، وتذكرين ان حضور الامسيات لم يكن يزيد على خمسة او عشرة او عشرين وربما ثلاثين او أربعين شخصاً في احسن الاحوال بينما عندما كنا ندعو شاعراً يكتب الشعر العامي كان المكان يضيق بالجمهور رغم انه يتسع للآلاف. هذه ظاهرة لم أخترعها أنا. والسؤال: لماذا يأتي الإنسان العادي للشاعر العامي ولا يأبه بشاعر الفصحى؟. ربما الانتماء هو السبب. الانسان العادي يرى صورته وآلامه وأفراحه وأتراحه في الشعر العامي لأنه يعبر عنه ولا يمكن ان يراها لدى شاعر يحمل فكر اليوت وأساليبه. الشعر الفصيح كلما غرب نفسه كلما فقد جمهوره العربي وصار اكثر نخبوية. بالطبع ثمة شعراء فصحى كانوا يجذبون الجمهور وهؤلاء إما لأنهم ما زالوا يكتبون على الخط العربي الاساسي في الشعر او لأنهم يتبنون قضايا كبرى ويعبرون عن هموم الناس.
◆ وماذا عن شاعر المليون، كيف تنظر إليه؟
◆ أولاً وقبل كل شيء فإن فكرة برنامج شاعر المليون هي فكرة عبقرية بحق، وجزى الله مبتكرها كل خير. ولي في هذا البرنامج نظرتان: عامة وخاصة. اما الخاصة فهي أنني استطعت من خلال هذا البرنامج أن أنزل عن السلم الذي كنت أرقص عليه، بمعنى: طوال بحثي في الشعر النبطي كنت بالنسبة لأهل الإمارات كغريب دخل إلى حماهم، وبالنسبة للمجتمع الفلسطيني والأردني كأنني من الإمارات ولست منهم لأنني أكتب وأبحث في تراث الإمارات. بعد البرنامج رآني الناس هنا وهناك وهذا ليس غروراً. لديَّ 30 مؤلفا صار لها بعد شاعر المليون قيمة معنوية. هذا البرنامج اعاد الاعتبار والقيمة لإنجازاتي العلمية التي سفحت عمري لتحقيقها وهذا امر في غاية الأهمية بالنسبة إلي. أما العامة فأعتقد أن “شاعر المليون” يحقق رسالة رائعة ويبدد بعض الأوهام الشائعة حول الثقافة الشعبية مثل القول بأن الشعر النبطي يظل حبيس المنطقة التي تنتشر فيها اللهجة وهذا كلام صحيح الى حد كبير. لكن الغريب أننا في جولاتنا نكتشف العكس تماماً، وفي المغرب وليبيا والأردن وغيرها فوجئنا بأن الناس تتابع البرنامج، وأنا أتحدث عن أناس عاديين: جرسونات في مطاعم، عمال، في الشارع وفي الحافلات كانوا يسألوننا لماذا فعلتم كذا بالشاعر الفلاني ولماذا قلتم كذا للشاعر العلاني. وكنا نسألهم هل تفهمون الكلام الذي يقال كانوا يقولون أنهم يفهمونه بنسبة 70% ومع التعود يلتقطون أكثر. ويبدو أن التفسير موجود لدى الشعر.. ويبدو ان الشعر هو الوعاء الحقيقي للثقافة العربية، إنها سلطة الشعر.
أشباحنا التي نصنعها
◆ يرى المشتغلون في التاريخ الثقافي والباحثون في التراث الشعبي أن المنتج الشعبي أكثر مصداقية في التعبير عن الناس وواقعهم وأنظمة حياتهم الاجتماعية والفكرية والسياسية وغيرها، ولهذا يولونه عناية اكبر ويعولون عليه في الدفاع عن خصوصية اي مجتمع مقابل العولمة، هل تعتقد أن هذا الرهان يصلح عربياً؟ وهل العولمة غول علينا محاربته فعلاً؟
◆ أحياناً نحن نصنع أشباحنا لنخاف منها. هذا لا يعني إنكار مقدار الخطر الذي تمثله العولمة على الثقافات الأخرى لكن العولمة في النهاية نمط حياة واسلوب عيش سائد في هذا الوقت. في الماضي كانت العولمة عربية حين كانت الحضارة العربية الإسلامية في حال متألقة. بالطبع، لا يمكننا وقف العولمة ولا الانعزال عنها لكن يمكننا ان نرى أنفسنا داخل العولمة وأين نحن وكيف نبدو. علينا أن نصنع لوننا الخاص الذي يميزنا عن الآخرين، ولن نصنع لوننا إلا من خلال ثقافتنا. هذا يعني أن نتبنى الثقافة لأنها هي المستهدفة. والثقافة حين تتحول الى تطبيقات تصبح ملابس وأزياء وأطعمة ونمط بناء وغيرها. لكن الرهان في تقديري ينبغي ان يكون على الإنسان نفسه. هذا الكيان الذي يسير على قدمين عليه أن يبحث عن خصوصيته الثقافية ويتمسك بها من دون أن يتعولم التعولم المؤدي الى الذوبان، وفي حال كان التعولم ضرورياً فليكن في مسائل علمية وتقنية تسهم في تطوير الحياة والارتقاء بها. لا يعقل مثلاً أن يرفض المرء السيارة أو التلفزيون أو غيرها من وسائل الحياة لأنها من منجزات الحضارة المعاصرة لأنه بذلك يحارب نفسه. هنا تظهر أهمية الثقافة الشعبية والتراث الشعبي لأن الخصوصية الثقافية يمكن العثور عليها في ما أنتجه الشعب وما أنتجته الذاكرة الجمعية وما على الإنسان إلا أن يتصور ذاته الصغيرة داخل ذاته الكبيرة: ذاته العربية. وأعتقد أن فرص الصمود أمام تحديات العولمة متاحة إذا تم التركيز على الثقافة الشعبية وأعني بها الثقافة الخاصة بالمجتمع. إن الكلمة المفتاحية في هذه القضية هي الإنسان، هل ينتمي الى مجتمعه وثقافته ويعي صورته ودوره، إذا كان الجواب بالإيجاب فإنه يستطيع أن يتعاطى مع كل شيء باتزان ويحمي داخله وفكره وقناعاته من أي تشوهات سواء جاءت بها العولمة أو غيرها. بالطبع، هذه ليست دعوة للجمود ولا للسكون بل للإنتاج والعمل، وإلا تحول التراث الى خيال وأوهام وذكريات ماضوية. وفي حال اراد الانسان ان يظل مستهلكاً كما هي الحال في مجتمعاتنا العربية – للأسف – فإن الغزوة صعبة جداً والإبقاء على التراث ليس سهلاً البتة.
◆ أنت من جيل الحالمين الذين كانت لهم أحلام كبيرة على مستوى الأوطان ووحدتها والبلاد وعودتها، ترى ما الذي تحقق من هذه الأحلام وما الذي تكسر على صخرة الواقع الصلد؟
◆ كأنك تسألين عن الفرق بين الواقع والمثال. كثير من الأحلام تكسرت لكن الفكرة نفسها لم تخدش بالنسبة لي. ما زلت أحمل القضايا التي كنت أؤمن بها في داخلي رغم أن الكثير من مجريات الواقع تتناقض معها او تشدخها. بالنسبة لنا نحن العرب نعيش مرحلة صعبة، لم نعد من أهل القمة ولا فاعلين ولا موجهين على صعيد الحضارة. هذه طبيعة الحياة والدولاب يدور...
|