تظاهرة قلب !
أيها المسلمون ، المؤمنون بالله وبما أتى به رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبرسالة الإسلام الخالدة الآمرة بكل خير ، والناهية عن كل شر ..
أيها المسلمون الحكماء ، الكرماء ، البواسل ، ذوو المروءة ومكارم الأخلاقِ .
أيها المسلمون الصادق ولائهم لله ولرسوله ولأولي الأمر منهم ..
أكتب لكم هذه الرسالة وأنا موقنٌ بأن الله هو الرقيب الحسيب على كل حرفٍ أكتبه فيها ، أكتبها وأنا متجردٌ من كل تبعية لمن هو دون ملك الملوك – جلَّ وعلا - ، فأقسم بالله العظيم – وإنه قسمٌ لو تعلمون عظيم – أنني لم أكتبها بإيعازٍ من أحد ، بل كتبتها استشعاراً بمسؤوليتي في إحقاق الحق وإزهاق الباطل وتبيان ما فيه خيراً للإسلام وللمسلمين..
أكتب لكم هذه الرسالة النابعة من قلبي لا من دونه، وأرجو من الله أن تجد في عقولكم و قلوبكم منزلاً مباركا ..
إن ما يمر به عالمنا اليوم من أحداث عصيبة وفتنٍ كقطع الليل – كما أخبر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) – ليحتاج منا الوقفة الجادة الصادقة، والالتحام لا الانقسام، والالتفاف على أهل الذكر والحكمة وسداد الرأي ، وهذه الأحداث ليست إلا اختبارٌ ربّاني يمتحن الله به المسلمين ، وثباتهم على الحق، ويمحّص ما في قلوبهم، فقد قال الله تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذي خلوا من قبلكم ، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين أمنوا معه متى نصر الله ، ألا إن نصر الله قريب } البقرة : 214. إن ما حدث في تونس ومصر وما يحدث في ليبيا واليمن والبحرين ، قد يحدث لنا ولغيرنا ، إذا لم نستمع إلى نداء الحكمة ونوصل صوتها لكل ناءٍ عنها. مجَّد الكثيرون من أبناء هذا البلد ثورات الشعوب التي حدثت في تلك الدول ووصفوها بأنها ثورات عادلة أججها الظلم الذي يُمارس عليهم من لدن أنظمتهم الحاكمة، وغضبوا على من ينعتها بالفتنة، وخوَّنوه وأدعو بأنه مداهن ومحابي وعميل، وهذه من ضرائب الوقفة التي أنُشدها، ولم أكتب هذه الرسالة لكي أرد عليهم، بل كتبتها لكي أوضَّح بعض ما التبس على الناس حول تلك الثورات وحقيقتها: من الذي أشعل فتيلها؟ ومن هم المستفيدين منها ؟ وماذا تحقق لأصحابها منها ؟ ومن الذي خطط لها سبقاً ؟ ومن هم ضحاياها ؟ لن أقول : بُصرت بما لم يبصروا به ، بل سأقول : فذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
إن تلك الثورات لم تقم لسببٍ أخروي يُبتغى منه مرضاة الله – عز وجل – بل قامت لأسبابٍ دينيوية محضة يجمعها بندٌ ذرائعي انصهرت فيه النوايا السليمة والسقيمة ألا وهو بند ( حقوق الإنسان). ومن المُسلّم به أن أي سلوك ديني يراد منها رضوان الله مثل الجهاد في سبيله مُقيَّد ومنضبط بأحكام شرعية واجبة التطبيق، فعندما يخرج المجاهدون بحق في سبيل الله ، فهم يحملون في عقولهم وقلوبهم أجندة أعمال يجب عليهم إتباعها، كعرض الدخول في الإسلام أو دفع الجِزية قبل الاقتتال، وحسن معاملة الأسرى، وعدم الإفساد في الأرض بقتل الأطفال والنساء والشيوخ ، وهلك الحرث.. وغيرها من الوصايا السامية التي أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه الغزاة لرفع راية الإسلام وإظهار الحق على كل ما سواه، وما يهمنا في هذا السياق هو الدوافع !
إن الدافع العام للجهاد في سبيل الله هو ألا تكون فتنة وأن يكون الدين كله لله، ومع ذلك فإن المتبصّر يجد أن الجهاد مقنن بأحكام واجبة التنفيذ حفاظاً على النفس الآدمية التي قال الله عنها { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا}المائدة : 32 . ولهذا التوجه السامي قرائن يلحظها المتمعن ، فلو عدنا إلى مدونات المعارك في التاريخ وجمعنا أعداد شهداء المسلمين وقتلى الكافرين في المعارك لاتضحت لنا ملامح سماحة الإسلام، لأن المسلمون لا يقتلون إلا من يعاركهم في الميدان، في حين أن أولئك يقتلون كل من وقع بين أيديهم من النساء والأطفال والشيوخ والمعاهدين والأسرى إضافة إلى من يتمكنون من قلته في الميدان، ذلك هو الجهاد وهذا شأنه، وهذه الثورات تمخضت عن أعداد كبيرة من القتلى ودمارٍ يفوق الوصف وهلك للحرث والنسل لدوافعٍ دينيوية فانية بفناء أصحابها، فلو نظرنا إلى عدد من قُتل في تونس ومن قُتل في مصر وليبيا، وإلى الخراب والدمار الذي خلفته تلك الثورات، نظرة المحايد الصادق مع نفسه لسلَّمنا أنها : فتنة وأيما فتنة . هل تستحق هذه الدنيا التي لو تساوي عند الله جناح بعوضة لما سقى الكافر منها شربة ماء، هل تستحق كل هذا القتل والتدمير والخراب ؟!
عكف أولئك الذين يعرفون مدى خطورة انتشار الإسلام في الأرض على معتقداتهم وأيديولوجياتهم ما كان ثيوقراطياً أو ديمقراطياً أو جمهورياً منها، على دراسة كل ما من شأنه إيقاف تسلل الإسلام إلى العقول والقلوب عبر الحدود، لأن التاريخ قد أعطاهم الدلائل والشواهد التي توكد أن الإسلام هو الدين الجاذب بحق للبشرية إذا ما أُظهر بصورته الحقيقية المستندة إلى أحكامه العادلة ، المتسمة بالسماحة لا على الممارسات المنافية لتلك المبادئ، ووجدوا أن أفضل وسيلة لتحقيق هذا الهدف الدنيء هو القوى الناعمة الموجهة للعقول والقلوب التي في الصدور، فانتدبوا من رأوا فيه الأهلية لأداء هذا الدور إلى البلدان الإسلامية لدراسة أصول الشريعة واللغة العربية – لغة القرآن – والتفسير وغيرها ، وعادوا أولئك المستشرقين إلى بلدانهم بحصيلة علمية استفادوا منها سابقاً ولاحقا في محاربة الإسلام وصد انتشاره، وفي القرن الأخير ، خرج أولئك بسلاحٍ أقوى أثراً من جميع الأسلحة التي صنعوها، ألا وهو سلاح " حقوق الإنسان " وقد أثبت هذا السلاح فاعليته ، فبأقل جهد استحلوا عقولنا، وغيَّروا مبادئنا وقيمنا وأثروا عليها، واجتذبوا اهتمامنا، فبتنا نطالب بما ليس لنا به حق، نطالب بالحرية المطلقة التي لا تقيدها مبادئ ولا قيم، وندعي بأن كل شيءٍ في هذه الحياة هو حر في ذاته ، ولو أن هذا الإدعاء صحيحاً لسقطت علينا السماء ، والنجوم، والكواكب، ولفاض علينا البحور..كلاَّ إن كل شيءٍ حريته محددة، وهذه الحدود لا تعني إلا احترام حرية الآخرين، فعندما تكون الحرية بلا حدود ، فستتصادم الحريات وينتج دماراً وهلاكاً وفساداً ينافي المبدأ الربَّاني في " خلافة الأرض" ، وهذا مُبتغى أولئك وغاية ما يتمنون، فهم منذ عام 1948م ينفخون في الرماد حتى جعلوه ناراً تلظى، تذرعوا بحقوق الإنسان في التدخل بشئوننا ، وغذوا لدى الكثيرين منا هاجس الخروج والتشاؤم، وسحروهم بحضاراتهم وقيمهم لا سيما تلك التي لا تتلاقى وقيمنا الإسلامية، وغرسوا فينا حب الحياة وكأننا سنعيشها أبد الدهر، وبدسائسهم ومكرهم أجدوا بيننا من يواليهم في صفوفنا، وفرَّقونا، وعطَّلوا كثيراً من قيمنا ومبادئنا ومسلماتنا.، فلننظر إلى ما آل إليه الأمر في تونس ومصر وغيرها من الدول، هناك من يطالب بفصل الدين عن الدولة بعد سقوط الأنظمة ! وهذا – بلا شك – أحد أوجه تأثير تلك القوة الناعمة. إن المستفيد بحق من هذه الفرقة الناجمة تلكم الثورات، هم أولئك الذين يكيدون للإسلام المكائد، وحتى نكون أكثر صراحةً وواقعية؛ فإن أول دولة تستفيد هذه الفرقة هي الدولة التي بُنيت على أنقاض دولة .. هي إسرائيل، التي تسعى لإحكام قبضتها على المنطقة ! ولا استبعد أن تكون لها يد في ما حدث من خلال تأزيم الوضع وتأجيجه، فالفائدة في الأخير لم تتحقق لتلك الشعوب الثائرة الغاضبة ، بل منهم الضحايا إضافة إلى أنهم خرجوا منها أصفار الأيدي! وأنا موقن تمام الإيقان أن الرؤساء المنتظرين لتلك الدول التي سقطت أنظمتها سيكونون صناعة أميركية / إسرائيلية ! إلا أن يحدث الله بعد ذلك أمرا. لست راضياً على تلك الأنظمة ، ولم أخوَّل نفسي بالحديث عنها في هذا السياق، ولكن مالا أرضاه أن تنطلي علينا هذه الحِيل التي يفترض أن تكون بائسة باستمساكنا بالعروة الوثقى، وتغليب المصالح العليا على المصالح الدُنيا ، والقبول بأقل الأضرار تلافياً لأكبرها، والإيمان الصادق بأن كل ما دون مرضاة الله لا يستحق أن نقتتل ونتفرق لأجله .
" أنا لأجل الله أعيش ولأجله أموت "
إن ما ترتب عن أحداث هذه الساعة يثبت بحق فشل الديمقراطية الحديثة التي تنادي بها شعوب البلدان الإسلامية ، ونجاح السلطان الإسلامي ، كما أثبتت – قبل ذلك – نجاح الاقتصاد الإسلامي، الأزمة المالية التي عصفت باقتصادات العالم. من يقول بأن النظام الديمقراطي يمثل شراكة الحاكم والمحكوم في تقرير المصائر وصناعة القرارات يناقض بقوله الواقع المعاش، بدليل أن الشعب الأميركي والشعوب الأوروبية لم تكن راضية عن كثيرٍ من القرارات التي خرجت بها حكوماتها، وأقرب مثال غزوها الظالم للعراق. ومن يقول بأن النظام الديمقراطي يصلح تطبيقه في دولنا العربية يغفل حقيقة أن الديمقراطية لم تفعَّل كما يفترض في الدول التي تحكم بها منذ قرون من الزمن ! ، فالساسة في تلك الدول ينادون ويعملون بها إذا كانت تصب في مصالحهم السياسية والاقتصادية ، ويتجردون منها عندما تتعارض مع تلك المصالح، وكما نعلم فإن لكل شعب إرث ثقافي واجتماعي ومكونات تحدد توجهاته عقوداً من الزمن، وبالمقارنة بين ما حدث في مظاهرات في البلدان العربية من عنف وممارسات قمعية ووحشية ، وبين ما يحدث في الدول الغربية من مظاهرات سلمية تجسد هذه الحقيقة التي ينبغي ألا تغيب عنَّا، فبقدر ما كانت الأنظمة العربية قمعيةً في تعاملها مع شعوبها المتظاهرة ، كانت تلك الشعوب تدمر وتخرب وتحرق وتقتل إضافةً إلى ما فعلوه من اصطلح على تسميتهم بالبلطجية .
لا ينبغي أن تمر هذه الأحداث بلا اتعاظ واعتبار وتأمل، ويجب علينا جميعاً أحياء الرقابة الذاتية قبل أن ننادي بالرقابة السلطوية، وإذا كنا معجبين بأسلوب الحياة الغربية ، فيجب ألا يغيب عنا أن هذا الأسلوب هو أسلوب إسلامي عبَّر عنه أحد المفكرين بقوله عندما ذهب إلى إحدى الدول غير الإسلامية : " وجدت إسلاماً ولم أجد مسلمين " ، ويجب علينا أن نطبق هذا الأسلوب في حياتنا، وأن نبدأ بالتغيير من أنفسنا { ..إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ..}الرعد : 11 ، وحينها سيقول المنصف لنا : هذه بضاعتكم رُدت إليكم .