دراسة تحليلية عن الاختلاف المؤدلج حول الثوابت الدينية ! ( جهد شخصي)
اتفق الكثيرون على مر القرون أن : الاختلاف هو الركيزة الأس التي قامت عليها الحياة، وإن الاتفاق ليس إلا ظرفاً طارئاً على ذلك الأس، والسؤال الأكثر أهمية ما هو السلوك الأنفع بينهما ، الاختلاف أم الاتفاق ؟! ، أعتقد أن الاتفاق في معظم الأحول هو الأجدى والأنفع أثراً رغم أن للاختلاف أحياناً نفعاً قد يكون من أوجهه ابتكارات وإبداعات يستفيد منها الإنسان في حياته، وتسهم في عمارة الأرض.
ولكن المتأمل يجد أن هذه الحقيقة - المتمثلة في أن الاختلاف هو الأساس - باتت قاعدة يستند إليها كل من اختلف، ويتذرع بها كل من انشق عن الصف السواء ! وكأنه يريد بها فض الجدل وقد يكون ذلك لضعف حجته وعدم مقدرته على إقناع أولئك المتفقين !
لا أعتقد أن المحتج بهكذا حجة ، قد ألجم وأبهت وانتصر، بل أرى أنه يدين ذاته بهذه الحجة، وخصوصاً فيما يتعلق بالثوابت الدينية، فلا يكفي أن تكون مختلفاً لمجرد الاختلاف في هذا الشأن الذي يحدد المصائر الحتمية، بل يجب عليك أن تُسمع وتَسمع حتى تصل أنت ومن اختلفت معه إلى اتفاق مبني على أسسٍ ثابتة.
هناك مسلمات ( لا مساس ) حددتها الشواهد في الكتب المقدسة، وأقوال الأنبياء الصحيحة - عليهم السلام - ، وما دون هذه المسلمات يُعتبر بيئة خِصبة للاختلاف في إطار المراجع الفقهية المتفق على اعتمادها كمستقى للأحكام. وعندما نقول أن الاختلاف الفقهي تخفيف ورحمة من الله عز وجل فإننا نعني بحق ما نقول، ولعل من أوجه تلك الرحمة هو مواكبة أحكام الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان وانسجامها والتعقيدات التي تشهدها العصور.
لست متخصصاً في الفقه الإسلامي، ولكنني أتحدث من محجةٍ بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلاهالك ، كما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن وجهة نظري فإن الاختلاف في الثوابت التي حددها الله عز وجل ورسوله الكريم وما أجمع عليه علماء المسلمين الموثوقين، وجهٌ آخر لمبدأ { وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه، قال من يحيي العظام وهي رميم ..}، فهناك من ينادي شيئاً من الحدود الشرعية، مثل حد الردة، بزعمه أنها انتهاك لحرية الدين والمعتقد التي نادى بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948م) ، وأكدتها المواثيق التي تلته مثل العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية (1966م) وغيرها ، وعندما تصدر هذه المطالبة من شخصٍ لا يدين بالإسلام فنلتمس له العذر - والله أعلم عن مصيره - باعتبار أنه يجهل الإسلام ومقاصده، ولكن عندما تصدر من مسلم، فهذه هي المصيبة والخطب الجلل، لأنه ينبغي أن يعلم بداهةً أن كل ما أنزله الله هو الحق والأحق بالإتباع، وأن عقوبة الردة هي إطار ما دونها من العقوبات الحدية والتعزيرية، وليس فيها انتهاك للحق في حرية الدين والمعتقد ، كيف ذلك والله يقول في كتابه { لا إكراه في الدين ..} ، نعم من حق إنسان إختيار الديانة التي يشاء، وعقوبة الردَّة ليس لها مجالاً هنا، وإنما يأتي مقامها عندما يختار ذلك الإنسان الدين الإسلامي، ثم يقرر الارتداد عنه، تصدياً للضرر الذي سيلحق بمقاصد الإسلام الذي يفترض أن يصل إلى الناس قاطبة، وحمايةً له من مكر المتربصين له، والذين قال الله عنهم { ود كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردوكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق } ، فلو لم تكن هناك عقوبة للردة لدخل مجموعة من أولئك الحسَّاد في الإسلام وارتدوا عنه ليبقوا في نفوس المسلمين شكاً فيما سلَّموا به، وليردوا أولئك الذين ينوون الإسلام، كما أن عقوبة الردة هي الضامن لتطبيق العقوبات الحدية الأخرى والتعزيرية، فلو احتج أحدهم بعد أن زنى بأنه خرج من الإسلام للتو، فهو سيواجه عقوبةً مشابهة لعقوبة الزاني أو أغلظ منها، وأعتقد أن هذه الأسباب كافية لفض الجدل حول هذه العقوبة الحدية، رغم أن هناك الكثير والكثير من الأسباب المنطقية لإيقاع هذه العقوبة والحِكم التي لا يعلمها إلا الله. ولمن لا يعترفون بالدين الإسلامي من الأساس، فإن لكل دولة نظام عام يجب أن يُحترم ، وسيتعرض كل مخالف له لعقوبة معينة، كتلك التي توقع في بند " الخيانة العظمى " .
فمن أراد أن يجادل بالمنطق " العقلي " فحتماً سيقتنع في صحة قاعدة ( لا مساس في الثوابت )، شريطة ألا تكون تلك الثوابت تقتضي التسليم بها دون الاستعانة بالعقل البشري الذي هو من صنع الله - عز وجل - الذي حدد تلك الثوابت { وتلك حدود الله فلا تقربوها } ، على نحو قاعدة ( الصفة معلومة ،والكيف مجهول )
ومن أكتفى بالمنطق " النقلي " للتسليم فذلك أسلم وأقوم ، على أن يكون النقل له أصل في المراجع الأساسية .
لا أدعو إلى تعطيل العقل ولا اعتماد النقل بشكل مطلق، بل أدعو إلى تجنب الاختلاف لمجرد الاختلاف لتعزيز أيدولوجية ( الحرية المطلقة )، وإثبات الانتماء إلى المُؤدلجين بها !
فلا أتمنى أن يصل سقف حوارنا إلى ذات الدرجة التي بلغها حوار صاحب الجنتين وصاحبه!
|