(2)
إن المتأمل في حِوار صاحب الجنتين وصاحبه، يجد أن صاحب الجنتين قد بلغ به العُجب إلى الظن مجرد الظن بالخلود ، رغم أنه استدرك بقوله ( ولئن رددت إلى ربي لأجدن خير منها منقلبا ) ، وهذا قد يجسّد النزاع الذاتي بين نفسه اللوامة وتلك الأمارة بالسوء ! ولو أنه انقاد لكلمة الحق الذي صدع بها صاحبه ( ولولا إذْ دخلت جنتك قلت ماشاء الله لا قوة إلا بالله إن ترنِ أنا أقل منك مالاً وولدا) لما ( فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاويةٌ على عروشها ) .
باستعراض هذه القصة التي ذكرها الله عز وجل في سورة الكهف، أخلص قولاً أن الاختلاف بقدر ما يكون نعمة أحياناً يكون نقمة في أحايين أخرى. وهذا ما يوكد أن الاختلاف في الثوابت تحتمل نتيجته أمران لا ثالث لهما : النصر لمن سلَّم بها ، والهزيمة لمن فكر وقدَّر واختلف فيها.
يقول ستورات مل :"إن الناس عندما ينهون غيرهم عن المنكر يعتقدون أن الله لا يكره فقط من يعصي أوامره , بل سيعاقب أيضاً من لم ينتقم في الحال من ذلك العاصي"، ويقول أيضاً :"في كل قضية من القضايا السابقة إن عدم تدخل الدولة قد يؤدي إلى أن يضر المرء نفسه بنفسه : أن يبقى جاهلاً أو أن يبذر ماله أو أن يسمم أقرباءه أو أن يبيع نفسه , ولكن إذا تدخلت الدولة ومنعت بعض الأنشطة , فسيكون المنع بالنسبة للرجل العاقل تجنياً على حقه في التصرف الحر".
فسبحان من قال : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا}
إن المتأمل في قولي (ملْ) السابقين يجد اختلافاً وتناقضاً واضحاً، ولو عُمل بقولي (مل) لسادت الفوضى ولتذرع كل فرد بالقول الذي يناسبه من القولين السابقين، وأعتقد أن (مل) لا ينتهج في طرحه قاعدة ( الناسخ والمنسوخ ) ، ولو كان كذلك لكان آخر أقواله ( أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ) . أما عن القرآن مع فارق التشبيه فالناسخ والمنسوخ من الآيات فيه ليس إلا رحمةً من الله بعباده.
قد تكون ( الكهنوتية ) والحكم ( الثيوقراطي ) هو من حمل ( ملْ ) وغيره أن يخرجوا بهذه الأقوال التي باتت في حكم ( القواعد )، فنعلم جميعاً أنه في حقبة زمنية منصرمة، كان يمارس فيها استغلال سلطوي مقنع بالدين، في أوروبا ، وهذا له امتداد تاريخي موغلٌ في القدم، إذْ كان من مثالب بني إسرائيل أنهم يكتبون الكتاب بإيديهم ويقولون هذا من عنده الله ، ليشتروا به ثمناً قليلا ! فقد يكون ذلك سبب التمرد الفكري على تلك المبادئ الدينية المصطنعة. ولكن الأمر في الإسلام يختلف كثيراً، لعدة أسباب أولها : ضمان الله لحفظ القرآن من التحرييف المتمثل في الإزادة أو الإنقاص { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} ، ثانيها : عدم ابتغاء الأنبياء كل ما هو دون مرضاة الله عز وجل { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين } ثالثها : عدالة أحكام الشريعة الإسلامية التي هي لها السلطان على أنظمة الدولة الإسلامية. فجميع أحكام الشريعة الإسلامية لا تعطي فئة امتيازات مادية تؤخذ من فئة أخرى بغير حق، وكما قال أبو بكر الصديق ( رضي الله عنه ) : " أنا لست أميراً عليكم وإنما أنا عاملكم على شئونكم " ، وعندما أقول - امتيازات - أعني تلك الامتيازات التي تندرج في إطار ( الكهنوتية ) ، ( ولاية الفقيه ) وغيرها ، وغير ذلك من الأسباب التي قد يصل إليها من هم أعلم مني.
صحيح أن هناك بعض الممارسات الخاطئة التي أُدرجت في إطار الدين بأي شكلٍ من الأشكال، ولكن لا ينبغي أن نزر أحكام الشريعة الإسلامية بها، لأنها ممارسات ولدها الخلط بين أحكام الشريعة الإسلامية والإرث الثقافي والاجتماعي.
لا ألتمس عذراً لـ ( ستورات ملْ ) ، ولكني أبين أن قواعد الأيديولجية التي سنَّها ، ربما تكون صالحة للعمل بها في المجتمعات التي تدين بغير الإسلام، ولكنها غير قابلة للتطبيق في إطار النظام الإسلامي القويم، وحتى نطبق قاعدة ( الحكمة ضالة المؤمن ) ، فلا أرى ضيراً في تجزيء تلك القواعد وأخذ ما هو صالحٌ منها، رغم أنه لم يأتي بجديد.
اختلف معي فيما شئت، ولكن لنتفق على أن هناك ثوابت ومسلمات لا ينبغي أن نضعها على الطاولة المستديرة ! ليس تحقيراً لعقلك ولا لعقلي ولكن تعظيماً لمن شرعها !
لماذا يعمد الكثيرون من منتهجي " حرية بلا حدود " إلى انتقاد الثوابت المتفق عليها، وهم في ذات الوقت يسلمون بالأنظمة المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ! هل هو النقد الاستعراضي ! أم لأنهم يحبون العاجلة ؟!
-
-
يتبع
|