من واقع التجربة، والقراءة الفاحصة لأطروحات المفكرين والمثقفين الذين لا حدود لنقدهم، وجدت شيئاً من الموضوعية لدى بعضهم، وأشياءاً من الانتقائية عند معظمهم، وأنا بطرحي هذا أخاطب الفئة الأولى، التي ربما حملها همها ورغبتها في تطوير المجتمعات التي تنتمي إليها إلى انتقاد كل شيء بل انتقاد اللاشيء !
إن جوهر الاختلاف وثمرته هو الاتفاق والاتساق، فلو اختلفنا في طريقة إنفاذ آلية ما ، واستمر خلافنا حولها، فلن يفضي ذلك إلى عمل تلك الآلية، أو سيفضي إلى عملها بدرجة منقوصة تفتقر إلى الجودة وسلامة أدائها، أما إذا اختلفنا وكان همنا أن نتفق ، فسنصل إلى اتفاقٍ مؤداه عمل تلك الآلية بجودةٍ عالية. هذا عن الاختلاف فيما دون الثوابت العقدية، وقد يكون اختلاف الأنظمة الحاكمة بالشريعة الإسلامية هنا وهناك وجهٌ آخر لهذا المثال البسيط. فبسبب الاختلاف حول بعض الحدود الشرعية في بعض الدول، تم تعطيل هذه الحدود والاحتكام إلى ماهو دونها من قوانين، ومن تجربةٍ عملية ، فقد واجهنا العديد من استفسارات المهتمين بالشأن الحقوقي في الغرب ( أميركا وأوروبا ) حول اختلاف الأحكام القضائية في الدول الإسلامية.
لن أنظَّر ولن أتفيقه في هذه المسائل التي أشبعها الراحلون والعابرون من علماء المسلمين ببحوثهم القيمة، التي باتت شمعة مضيئة في هذا الأفق المظلم، ولا أدعو إلى الاتفاق في كل شيء، بل أناشد أولئك الذين أتاهم الله عقل محتجاً كان الأولى به أن ينشد الحكمة ويؤتاها { ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا} ، وكان الأولى أن يحصر احتجاجاته في إطار ( ما دون الثوابت الراسخة )، فليس الانتماء إلى وسطٍ فكري وحده يكفي لتحقيق التطوير والتنوير المنشود، وليس صحيحاً أن التجرَّد من المسلمات يؤدي إلى تلكم النتيجة، بل إن تحقيقها مرهونٌ في تحرير الفكر من الإملاءات البشرية، التي ادعى مملوها أن سبب نجاح أممهم هو تلك الأفكار ولم نفكر ولو لبرهة أن دائماً النجاح يرفع شعاره محققوه والمستفيدون منه ومدعو تحقيقه ، فشراء كتاب ( السبيل إلى الثراء ) ليس كفيلاً بتحقيق الثراء، بل العمل المنظم هو وحده من يحقق الثراء.
كتب أحد الكتاب الغربيين رسالة في كتابٍ ألفه إلى خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله، يحضه فيها على التمسك بالمبادئ التي يستند إليها الحكم في المملكة العربية السعودية، ورأى أنها هي السبيل الوحيد لنجاة المجتمع من الفساد، ودعم حجته بشواهد من الشارع الغربي، ورغم أن الكثيرين من الكتاب السعوديين جعل من هذه الرسالة ورقة انتصار وشهادة عدو ( والفضل فيما تشهد الأعداءُ ) يبرزها في وجه كل أحد. إلا أنني رأيت وكتبت أننا اعتدنا أن يكون التسويق خارج المادة العلمية التي يتضمنها المُؤَلفْ إلا أن هذا الكاتب جعل مادة مؤلفه كله مادة تسويقية، وأن ما ذكره ليس إلا محاولة للحصول على صفقة العمر، والثراء، لسبب بسيط، وهو لأن الكاتب فعلاً آمن بما كتب في مؤلفه ورسالته، لاستهلها بمفتاح الدخول إلى الإسلام ( أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ).
مثلُ هذا المؤلف بعض كتابنا الذين يدعون إلى أشياء لو طُلب منهم تطبيقها أولاً لتمتموا ولرفضوا وكأنهم لم يطالبون بها يوما !
مشكلتنا التي أرجو ألا تكون سرمدية، هي أننا لا ننتقد العمل بل نطال بنقدنا للمبدأ الذي انتهكه ذلك العمل، مثال بسيط :
عندما يضطلع أحد المحسوبين على رجال الحسبة ( هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) بممارسة خاطئة، ينتقد الكثيرون من كتابنا شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ! وليس ذلك الفرد أو الهيئة، فأنا اختلف معهم مع كامل الاحترام والحب، لإيماني بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سلوك حضاري يواكب حضارة كل زمان ومكان، ولكن اتفق مع من يقول : بأن بعض الطرائق التي يؤمر من خلالها بالمعروف وينهى عن المنكر هي الخطأ.
كنت جالساً إلى أصحابٍ لي في بهو فندق ( four seasons hotel) في الرياض نتناقش حول بعض الأعمال التي نحن شركاء فيها، وفي أثناء عصفنا لأفكارنا حول مسألةٍ ما، قطع أحد أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حبال أفكارنا بمروره علينا، أعلنت انسحابي من دائرة النقاش لكي أتابع ماذا سيفعل هذا العضو الذي يرتدي مشلحاً حساوياً من الطراز الفاخر ويرافقه أحد أفراد الأمن الداخلي، أخذ يمشي يمنة ويسرة في ردهات بهو الفندق ومر ببعض الفتيات التي كن يجلسن قريباً منا ، ولم يتفوه بكلمة واحدة إليهن، ومر بنا وتجاوزنا وأخذ يتفقد ردهات وسراديب الفندق، ثم خرج بكل احترام وتقدير، واتفقت أنا وأصدقائي أن هذا هو النموذج الذي ينبغي على رجال الحسبة أن يضطلعوا به، حيث لم يحسب على ذلك العضو أو الشيخ أو كما أحب أن نسميه إلاَّ أنه قطع حبالنا أفكارنا وغير موضوع نقاشنا بعدما خرج وترك هذا الانطباع الجيد .
يتبع
|