-
-
-
بالنظر الثاقب إلى الاتفاق والاختلاف كسلوكين مجرَّدين، نُخلص إلى حقيقةٍ لا مناص عنها، وهي أن الاتفاق يقتضي نتيجة واحدة ، إما تكون سلبية أو إيجابية ، أما الاختلاف فينتج عنه نتيجتان حتميتان إحداهما إيجابية والأخرى سلبية، أي أن أحد المختلفين ستطاله النتيجة السلبية التي ربما تكون أبدية، وهناك احتمال وارد أن يكون ضرر الاتفاق أكثر من الاختلاف، ولكن الاتفاق حول الثوابت الدينية في الإسلام تحديداً أسلم وأقرب للتقوى، لأن الله قد تعهد بحفظ المرجع الأساس بقوله { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } ، ثم أن الاختلاف لم يطل المسلمات وإنما بقي في الإطار الفقهي المرن الذي يواكب كل زمانٍ ومكان، أي أن الاختلاف الذي كانت من نتائجه ظهور المذاهب الفقهية الأربعة، لا يدعو إلى الريبة في تلك الثوابت بل أتى بملمح من ملامح الرحمة التي أكدتها القاعدة " الاختلاف رحمة " .
لننزل هذا الكلام الافتراضي على مشاهد من الواقع المعاش، إن خروج أرباب الفكر الضال الذين اصطلحنا على تسميتهم بالإرهابيين ، أحد المشاهد الواقعية التي توكد ما أسلفت، فأولئك كانت بداية ضلالهم اختلافهم مع العلماء الراسخين حول بعض المسلمات، ليتطور هذا الختلاف الذي كان ينحصر في إطار السلوك اللفظي إلى سلوكٍ فعلي ضار ، ففجروا ودمروا وقتلوا وعثوا في الأرض فساداً، ولو أنهم حاوروا وناقشوا بعقلية المتأهب للرجوع إلى الحق، وبقلبٍ سليمٍ من الظنون الآثمة، لعدلوا عن هذا الفكر الذي لا يخدم الإسلام ولا المسلمين، وما يهمنا في هذا السياق هو عدد المتفقين وعدة المختلفين معهم. أعتقد أنه لا مقارنة عددية بين المتفقين حول ضلال هذا الفكر والمختلفين معهم، وهذا يوكد عملياً صدق مبدأ " الجماعة "، وأعتقد أنني لا أبالغ عندما أقول نسبة المختلفين إلى المتفقين في هذا الحقل 1/1000 بل قد أكون مجحفاً ، فهل يعقل أن يكون هذا الواحد على حق والألف ضالون. لنأخذها من منظورٍ أكبر ، كم نسبة الشيعة إلى السنة في العالم؟ أعتقد أنها النسبة أعلاه إن لم تكن أكثر منها، فهل يعقل أن هؤلاء القلة على حق والسنة على باطل؟!
لم أورد هذه الحقائق، كحجة أقيمها على الفئة الضالة أو الشيعة لتفنيد ما يستندون عليه، بل أشرت إليها لإثبات أن الاتفاق على الثوابت الدينية غالباً ما تكون نتيجته التي افترضنا أنها واحدة : إيجابية، ولذلك الإثبات دلائل وشواهد ورد بعضها في القرآن والسنة على نحو { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } ، وهناك أدلة مباشرة كحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار " والحديث الذي قال فيه - عليه الصلاة والسلام - " ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي مجتمعة فاضربوه بالسيف كائناً من كان " رواه مسلم .
والغريب في الأمر أن من يختلف مع المتفقين حول المسائل الدينية الراسخة، تجده يأطر اختلافه بإطار الديمقراطية أو الليبرالية، في حين أن الديمقراطية هي حكم الأغلبية، والليبرالية بشقها المتفق عليه هي حرية الفرد التي لا تتعدى على حريات الآخرين، فمن يختلف بدافع الحرية الشخصية يتناسى أن اختلافه حول المسلمات الدينية هو اعتداء على حريات المُسلّمين بها. أما الليبرالية المتبرأ منها من قبل الذين يسمون أنفسهم ليبراليين ، والتي تقتضي ألا يعترض حرية الفرد أي عارض مهما كان، فهي لم تكن نافذة منذ نشأتها وعلى هذا الأساس ويتضح أنها سُنت للاعتراض على كل ما هو مقدّس ومُسلّم به. فلا أحد يستطيع أن يجعل من أداة النفي أداة إثبات إلا إذا قام بنقلها إلى موضع آخر أو حذفها من الجملة !
-
-
يتبع
|