إذا مات شاعر في مكانِ ما من هذا الوجود ، ماتت في مكانٍ آخر شجرة ، وتساقطت أوراقها قبيل الفجر ، إذا مات شاعر إنطفأت نجمة ، وتخاصم حبيبان ، وضاع خاتمٌ ، وأصبحت الدنيا أقل !
إذا مات شاعر أُوصدت نافذة ، وبكت خلفها الفتاة والسقف والوسادة ، وإذا مات شاعر تنسى القهوة المواعيد ، ويعتذر الطلّ من الزهرة ، ولا يلتفت الصبح إلى وجه الحمامة ، والحمامة لا تقف على طرف السور ، ويمرّ الغروب متثاقلاً ومقطّباً حاجبيه !
وإذا مات شاعر غصّ بنغماته الناي ، ويرجع الشتاء أشد كآبة !
إذا مات الشاعر تسكت صفّارات الليل ، وتتراءى خيول بريّة على جانبيّ السماء ، خيولٌ يقطر عرقها على السحب .. تركض وتبكي ، لا تتعب ، لكنّها تتوقّف فجأة !
وتصهل وترفع قدميها بغضبٍ وأسى ، ثم تركض وتبكي من جديد ، ويقطر عرقها على سحابةٍ أخرى من جديد !
في القرى .. لا ينام الشاعر في الليل ، يبقى كالظمأ يحرس البئر والحزانى ، ويقسم للجافلين أنه لن يفزعهم ، وأنه لن يحول ما بينهم وبين الدلو .. وفي القرى أول ما يتمتم طفلٌ بالأغنيات والشعر تأتي الغيمة وتتمايل السنبلة ، وترى النساء تلك الليلة أحلاماً غريبة ، ويستيقظن وفي أكفهنّ الحنّاء .. وأول ما يولد الشاعر يصيح الرعيان ، وتتسع الأرض أكثر !
أول ما يولد شاعرٌ تسهر البساتين ويفرح الكهول ، أمّا الظالمون فيحدقون في وجوه بعضهم ، ثم لا يجدون في أفواههم ألسنة !
إذا مات شاعر .. نامت الصغيرات خائفات ، وصرخ الجفاء ، وتقافز الجدب ، والكراهية ، وإشتكت صفّارة الليل من الوحشة ، وقالت الهموم في وجه الخلائق (( أنتم الآن وحدكم ! )) .
ويموت الشعراء .. يذهبون واحداً واحداً دون أن يخبرونا ما هو الشعر ، دون أن يخرجوا من صدورهم الورقة الأخيرة التي تركوا فيها السرّ ، وكيف كانوا يقولون الكلام ، وما هو ذاك الإشعاع الحارّ الذي يلوّن الكلمات ، ويضيئها كما تفعل الكهرباء .. يذهبون واحداً واحداً إلى هناك ، حيث الموت نصّهم الكبير .. النص الذي يواجهوننا به ، يرمونه على ملامحنا ثم يخرجون بهدوءٍ وحزنٍ قبيل الفجر ، كما يجدّف الغريب الواقف على حافة القارب بصمتٍ وجلال ، ويمضي بعيداً ، شيئاً فشيئاً بإتجاه الضباب .. يددير لنا ظهره ويسافر إلى قلب الموج !
الشعراء يموتون عادةً قُبيل الفجر !
- هل مات اليوم شاعر؟
- حسناً .. إذا صليتم عليه ، وقبضتم على أصابع يده لآخر مرةٍ ، فلا تغادروه حتى تقرأوا له شيئاً من كلماته ، لا تتركوه وحيداً !
( وجه النائم - عبدالله ثابت )
|