عرض مشاركة واحدة
قديم 07-05-2011, 04:02 AM   #1302
محمد بلال
مستشار إداري


الصورة الرمزية محمد بلال
محمد بلال غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 1920
 تاريخ التسجيل :  Nov 2008
 أخر زيارة : 12-05-2020 (10:29 PM)
 المشاركات : 17,650 [ + ]
 زيارات الملف الشخصي : 55242
 الدولهـ
Saudi Arabia
لوني المفضل : Brown


الشعر في الرواية والرواية في الشعر


بيروت – محمد الحجيري
برزت أخيراً ظاهرة نزوح بعض الشعراء العرب والعالميين عن كتابة الشعر إلى كتابة الرواية، ويرى بعض الشعراء أن ذلك النزوح أمر طبيعي وليس وليد اليوم، خصوصاً أن المبدع لا حدود له في الحالة الإبداعية، وأنه لا يتوقّف على كتابة نوع معين في الأدب. في الوقت نفسه، برزت عناوين جديدة مثل «الرواية ديوان العرب» بل (العالم) بدلاً من «الشعر ديوان العرب»، ويرى بعض المنظرين أن هذا الأمر إشارة الى زمن العولمة وتداخل شبكات التواصل وموت الجنس الأدبي لمصلحة النص المفتوح على مختلف الاحتمالات.

وثمة من يقول إن السبب في رواج الرواية قدرتها على حمل أكثر من رسالة في أكثر من اتجاه، فيمكن للروائي أن يكتب في رواية واحدة حكاية وموقفاً سياسياً وبعض المقاطع الشعرية وفصلاً من فصول الجنس وتمريناً لغوياً، وهذا «العالم الكتابي» ليس بجديد أيضاً فهو وُجد منذ كتاب «ألف ليلة وليلة».

شعراء كثر كتبوا الروايات، وروائيون كثر أصدروا الدواوين الشعرية، وبين هذا وذاك، وبين الرواية والشعر يروح المبدع (سواء أكان روائياً أم شاعراً) يبحث عن سر «خلوده» الأدبي، هذا ما تقوله سير الأدباء والشعراء. من كان ليصدّق أن كونديرا بدأ حياته شاعراً أو طرق باب الشعر من خلال بواكير شعرية، كتبها أثناء المرحلة الثانوية، ونشر في عام 1953 أول دواوينه إلا أنه لم يحظَ بالاهتمام إلا مع مجموعته القصصية الأولى «غراميات ضاحكة» 1963.

هكذا، أخذت روح الكتابة كونديرا الى القصة والرواية ولم تبقِه في الشعر الذي كان ربما قاسياً في آرائه حوله، ربما من باب «الانتقام» الرمزي، ولم يحضر في مسيرته الأدبية إلا كطيف عابر لا معنى له.

الأمر نفسه حدث مع الروائي الأميركي بول أوستر الذي كتب الشعر في بدايته لأنه كان يحب الكتابة، وسرعان ما تحوّل الى الرواية فحظي باهتمام عالمي وبات الشعر خارج اهتماماته، واليوم تبدو أشعاره كأنها سراب في فضاء رواياته الواسعة الانتشار.

في العالم العربي، أسماء كثيرة لشعراء كتبوا الرواية أو العكس، فرشيد الضعيف أصدر أكثر من مجموعة شعرية ومع ذلك عُرف في الوسط الثقافي باعتباره روائياً وهو نادراً ما يلجأ الى تقديم أمسية شعرية. أمّا حسن داود (يصفه عباس بيضون بـ{شاعر الرواية») فاشتهر بحفظ الأبيات الشعرية، فيما كتب الشاعر عباس بيضون الرواية متأخراً (أصدر روايتين الأولى بعنوان «تحليل دم» والثانية بعنوان «مرايا فرانكنشتاين») ولا تزال صفة الشاعر تغلب على حياته. الأمر نفسه ينطبق على الشاعر والرسام شارل شهوان الذي أصدر مجموعة قصصية بعنوان «حرب شوارع»، والشاعر سامر أبو هواش الذي أصدر روايتين هما «السعادة» و{عيد العشاق»، والشاعر عبده وازن الذي لجأ أخيراً الى كتابة نص سردي أقرب إلى الرواية بعنوان «قلب مفتوح».

كذلك، كتب الشاعر العراقي سعدي يوسف رواية بعنوان «مثلث الدائرة» لم تحظَ باهتمام النقاد، فيما تُطلق على الأردني إبراهيم نصر الله صفة الشاعر والروائي، وأيضاً على اليمني علي المقري والسعودي الراحل غازي القصيبي والمصري إدوارد الخراط والمغربي الطاهر بن جلون الذي كتب روايات كثيرة وقليلاً من الشعر، واليوم صار مألوفاً أن نجد روايات عدة لشعراء ودواوين كثيرة لروائيين، لكن السؤال: أيهما أكثر تأثيراً؟

كافكا

كافكا ليس معروفاً بصفة «شاعر»، ومع ذلك نجد كثيراً من قصصه يزخر بالشعر الوجودي. بوسعنا القول إن هذا الروائي كان شاعراً بالمعنى الحقيقي للشعر، وفي شعره كثافة الشعور بالأشياء والتحوّلات والمصير البشري.

مارس كافكا – الروائي- تأثيراً قوياً على كثير من الروائيين والشعراء في العالم لأنه صاحب فلسفة، فأكثر قصصه إيجازاً قرأت بوصفها قصائد نثر والأمر نفسه في يومياته المتناثرة، ولا تنبع الحساسية الشعرية في أعماله من المؤثرات الشكلية بل من الغرابة والغموض والبعد الفنتازي عبر أحداث في غاية الكثافة. لم يكن كافكا منظراً للرواية أو للشعر، بل كاتباً فحسب على عكس المدرسة السوريالية التي حاولت وضع قالب لكل شيء، ومنذ انطلاقتها سارع روادها إلى شن هجوم عنيف على الرواية كأحد أشكال التعبير الأدبي الذي يعتمد على المنطق والوصف، واعتبارها «نتاج واقعية مضادة لكل ازدهار فكري واخلاقي»، وواقعية مركبة من الرداءة والاكتفاء التافه والمليئة بالصفحات الطويلة والأوصاف الدقيقة بأسلوب استعلامي بسيط. وفي البيان السوريالي الأول، وجه «بابا» السوريالية أندرية بروتون انتقاداً حاداً لشكل الرواية التي اعتبرها لعبة إخبارية مبتذلة، نوعاً من لعبة شطرنج حيث كل حركة تكون مرسومة مسبقاً، حيث يعرف المؤلف كل فعل يقوم به بطله معرفة تامة، لكن عندما ألقى بروتون محاضرة ثانية (بعد 20 سنة) عدّل في موقفه، وصار أكثر اعتدالاً وفتح المجال لتكون هناك رواية سوريالية يُمنح فيها الأبطال حرية استثنائية فلا يكون البطل مقيداً بحالة اجتماعية معينة، وظروف متناقضة، فالرواية السوريالية تؤكد غموض الشخصية، التردد والتغيير في الطبيعة الإنسانية. لذلك، امتدح السورياليون الأمكنة المسكونة والعنف والسرية ووصف الرزيلة في الروايات السوداء. فكان استسلام السورياليين للكتابة الروائية إشارة إلى التحوّلات التي طرأت على المجتمعات بل وطرق الكتابة نفسها.

بورخيس

الموقف الغريب من الرواية جاء من الشاعر الأرجنتيني بورخيس، والحال أن كثراً من النقاد يرون أثر بورخيس البالغ على الرواية على رغم أنه لم يكتبها؛ فالمكسيكي كارلوس فونتيس يقول: «لولا نثر بورخيس -أي قصصه- بالذات لما كانت هناك أصلاً رواية أميركية بالإسبانية». وعلى رغم ذلك كلّه فإنه لا يرى نفسه جديراً بأي شيء، فعندما سئل: لماذا لا تكتب الرواية؟ قال: «لا أستطيع؛ فأنا كسول والرواية تتطلّب مجهوداً، ثم إننا نكتب ما نقدر عليه، والمهم في رأيي أن يبقى أربع أو خمس صفحات مما يكتبه كل كاتب».

بورخيس الذي ظلّ يسخر من مواطنه الروائي أرنستو ساباتو لأنه ترك تخصّصه العلمي في حقل الفيزياء النووية وتوجّه الى الأدب، قال للروائي أونيتي: «لو أكمل ساباتو دراساته العلمية لربحت الأرجنتين عالماً وجائزة نوبل». أما ساباتو فكان يعيب على بورخيس أنه لا يملك النفس الطويل الذي يسمح له بكتابة رواية واحدة في حياته.

فضّل بورخيس دائماً القصة القصيرة على الرواية كنوع أدبي، لأن التفاصيل غير الضرورية تثقل في رأيه حبكة الرواية الحديثة.‏ واعتقد أن الرواية لا يمكن أن تخلّص نفسها من آثار مهما تكن طفيفة، مما هو واقعي، وأن الطول الذي تقتضيه قواعد هذا النوع الأدبي أحد الأسباب وراء ضعفه. وأوضح أن طول الرواية بالمقارنة بالقصة القصيرة، يمثل قيداً شكلياً على كمالها، لهذا أبدى رأيه مراراً وتكراراً ضد الواقعية ومحاكاة الواقع باعتباره المرجع وأعلن سخطه على الأدب الروسي أو الواقعية الفرنسية والمذهب الطبيعي الفرنسي.‏

كان بورخيس يشكو من أن الروايات الروسية قدّمت شخصيات تنهمك دائماً في سلوك متناقض وغالباً سخيف، من قبيل انتحار البطلة لأنها تحس بالسعادة أو قتل شخص بدافع الحب، شخصيات مبنية على أساس نوع السيكولوجيات المعقدة التي قد يكتشفها أي قارئ بسهولة لدى دوستويفسكي.‏ وأكد بورخيس أن الروايات تتمحور على الشخصيات بدلاً من الحبكة وتميل بالتالي إلى تصوير مضطرب للحدث الذي يمنح الفراسة السيكولوجية قيمة أعلى من الكمال الشكلي.‏

محمود درويش

الكبير بورخيس كان له أثره على الروائيين، والروائيون كان لهم أثرهم على الكبير محمود درويش، هكذا تبيّن المعادلة المشهدية. كان بورخيس «يكره» الرواية لأنها طويلة وينبغي اختزالها، والراجح أن درويش كان يعشق قراءة الرواية، كان يقرأ ليستلهم قصائده، درويش الذي أبدع في كتابة الشعر وأُطلقت على نثره صفة «الأرستقراطية».

لم يكتب درويش رواية، مع أنه كان ناثراً متفوقاً وقارئاً نهماً للروايات. حينما سأله الشاعر عبده وازن: «هل فكرت يوماً في أن تكتب رواية مثل كثير من الشعراء الذين كتبوا الرواية على هامش شعرهم؟»، أجاب: «مع حبي غير المحدود للرواية لم أفكر يوماً في كتابتها. لكنني أغبط الروائيين لأن عالمهم أوسع. والرواية تستطيع أن تستوعب كل أشكال المعرفة والثقافة والمشاكل والهموم والتجارب الحياتية. وتستطيع أن تمتص الشعر وسائر الأجناس الأدبية وتستفيد منها إلى أقصى الحدود». وفي الحوار نفسه يتحدث درويش عن كتاباته النثرية قائلاً: «كتبت كثيراً من النثر، لكنني ظلمت نثري لأنني لم أمنحه صفة المشروع. أكتب نثراً على هامش الشعر أو أكتب فائضاً كتابياً أسمّيه نثراً. لكن لم أولِ النثر الأهمية التي يستحقها، علماً أنني من شديدي الانحياز إلى الكتابة النثرية. والنثر لا يقل أهمية عن الشعر. بل على العكس، قد تكون في النثر مساحة من الحرية أكثر من الشعر».

يكتب دوريش النثر بأرستقراطية أكثر عمقاً من الشعر، كتب «ذاكرة للنسيان» عن المدينة التي أحبها (بيروت)، وعاش في ظل حصارها وهو غادرها في سبتمبر (أيلول) عام 1982 ولم يزرها حتى عام 1999.

يرفض درويش المفاضلة بين النثر والشعر لأن لكل منهما جماليته، فيقول: «أليس النثر هو حقل الشعر المفتوح؟ أليس الشعر هو نثر الورد على الليل ليضيء الليل؟». فمنذ بواكيره، نافس فيه الناثر الشاعر، وكان توأمه، انبثق الشعر من فائض النثر. يكتب درويش: «في ظنّك أنك تخطّيت العتبة الفاصلة بين الأفق والهاوية، وتدرّبت على فتح الاستعارة لغياب يحضر وحضور يغيب بتلقائية تبدو مطيعة وتعرف أن المعني في الشعر يتكوّن من حركة المعني، في إيقاع يتطلّع فيه النثر إلى رعوية الشعر، ويتطلع فيه الشعر إلى أرستقراطية النثر».

وفي خضم تداخل الرواية بالشعر تبرز لائحة اتهامات سخيفة، فنقرأ عناوين في هجاء الروائيين مثل «كتابة الركاكة»، وفي المقابل نقرأ نقاداً يهجون الشعراء باعتبار أن معظمهم يبني مجده على مديح السلطان الزائف، أو من خلال النفاق الفج.


 
 توقيع : محمد بلال






رد مع اقتباس