الموضوع: سوريا --مستمر
عرض مشاركة واحدة
قديم 15-04-2012, 02:41 AM   #949
شماليه
(*( عضو )*)


الصورة الرمزية شماليه
شماليه غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 2268
 تاريخ التسجيل :  Jan 2012
 أخر زيارة : 07-12-2013 (07:51 PM)
 المشاركات : 2,344 [ + ]
 زيارات الملف الشخصي : 32002
لوني المفضل : sienna






سوريا: قصة الثورة

مجاهد مأمون ديرانية


ليست هذه المقالة لأحد من أهل سوريا، فإن أي واحد منهم يستطيع أن يكتب مثلها أو أحسن منها. إنها لإخواننا العرب الذين ما يزالون يسألوننا بعد سنة: لماذا ثرتم على نظام الأسد؟ وما هي قصة هذه الثورة؟ فيا أيها السوريون: لا تضيّعوا وقتكم بقراءتها، ولكن أَقْرؤوها أولئك السائلين. أما الذين سيقرؤون هذه المقالة من غير السوريين فأرجو أن تساعدهم على تحسين فهمهم لمحنتنا في سوريا، على أني لا أعدهم بأن يفهموها الفهم الكامل، فليس من رأى كمن سمع ولا يُغني بيان عن عِيان.

-1-

يُسمّون سوريا جمهورية، والجمهوريات يُنتخَب رؤساؤها بالاقتراع العام ويتغيرون كل بضع سنوات، فما لرؤساء سوريا يولدون من أرحام زوجات رؤسائها، وما لهم لا يتغيرون؟

استولى حزب البعث على الحكم في سوريا بانقلاب دموي في آذار (مارس) عام 1963، ولكنه لم يكن انقلابَ حزب على حكومة بمقدار ما كان سطواً قام به فردٌ بمعونة عصابة، ذلك الفرد اسمه حافظ الأسد. لقد كان واحداً من جماعة الانقلابيين في الظاهر، ولكنه كان محرك الانقلاب في الحقيقة، وخلال سنوات قلائل استطاع أن يصفّي رفاقه واحداً بعد واحد، ثم انقلب على رفيق دربه صلاح جديد أواخر عام 1970، وبعدها بشهور أعلن نفسه حاكماً ورئيساً للبلاد، في آذار (مارس) عام 1971.

ثلاثون سنة من أعجف سنوات سوريا في تاريخها كله أمضتها تحت حكم حافظ الأسد، وحينما مات بعد ذلك في منتصف عام 2000 ورث ابنه بشار الحكمَ وكأنه ملك يَعْقُب ملكاً، فاقترح بعض الإعلاميين الظرفاء أن تغير سوريا اسمها إلى "الجملوكية العربية السورية"! ولما كان بشار دون السن القانونية التي ينصّ عليها الدستور فقد كان الحل واحداً من اثنين: البحث عن رئيس آخر أو تعديل الدستور، ولأن سوريا ليس فيها -بطولها وعرضها- من يصلح لقيادتها سوى بشار الأسد فقد كان تعديل الدستور هو أهون الحلّين، ولأن مجلس الشعب السوري يضم كوكبة من أفضل الكفاءات الدستورية في الدنيا فقد نجح في تعديل الدستور خلال خمس دقائق. وصار ولي العهد ملكاً!

-2-

منذ انقلاب البعث المشؤوم عام 1963 خضعت سوريا للحكم بقانون الطوارئ. ثمانية وأربعون عاماً عاشها الشعب السوري في ضَنْك وبؤس تحت سلطة ذلك القانون الجائر، ضاعت فيها حريته وضاعت كرامته وعاش في الكرب والهوان. الدولة كلها اختُزِلت في العصابة الحاكمة، العائلةِ وحواشيها: المؤسساتُ في يدها والاقتصادُ في جيبها والأمن والجيش تحت سيطرتها... عدة مئات من الأفراد يملكون البلد وما في البلد ويتحكمون بعشرين مليوناً من الناس. عندما أراد أحد المؤلفين أن يؤرخ لسوريا في ذلك العهد البائس لم يجد لكتابه عنواناً أفضل من "مزرعة الأسد"، وأحسن وأصاب؛ لقد صارت سوريا في عهد الأسد مزرعة، والسوريون فيها أقل قيمةً من البهائم وأقل كرامةً من الحيوانات!

منذ تسعة وأربعين عاماً يولد السوري -حينما يولد- ليزيد عدد الأسرى والمستعبَدين واحداً، يولد ليدخل إلى مملكة الخوف والذل والهوان، حيث لا كرامةَ ولا أمانَ للإنسان. الأمان والكرامة ألفاظ تعرفون معانيها في بلدانكم (بتفاوت بين بلد وبلد)، أما السوري فإنه كان يسمع عنها وكأنه يقرأ قصة من قصص الخيال.

في كل مكان في الدنيا يرضع الأطفال الحليب، إلا في سوريا، فإنهم يرضعون الخوف والخنوع. يقال للطفل من يوم ينطق الطفل: إياك أن تسأل عن شيء أو تعترض على شيء، إياك أن تشير إلى الأمن أو تتلفظ باسم المخابرات، إياك أن تذكر على لسانك اسم الرئيس إلا مسبوقاً بالتبجيل ومتبوعاً بالتبجيل.

-3-

في سوريا أصنام وصور للرئيس لو وُزّعت على أهل الأرض لكفتهم. تمشي في الطرق فتجد صنماً بين كل صنم وصنم، وصورة فوق كل صورة وتحت كل صورة. لقد اختزل القوم في رئيسهم تاريخَ سوريا كله، فهي لم تكن قبل الأسد إلا هَمَلاً ونَسْياً، وألّهوه أو رفعوه إلى مرتبة قريبة من الآلهة فجعلوه قائد الأبد، وكرسوا آلة الإعلام وجهاز التعليم كله ليزرعوا في عقول الناس تلك الفِرْية العظيمة: الأسدان -الابن والأب- أعظم العظماء وأحكم الحكماء على مر الزمان، وهما هبة الله لسوريا، آثرها بهما من دون العالمين.

وإنهم لَيُجيزون لمن شاء أن يهجو الله (تبارك الله في عليائه) ولا يجيزون أن يُذكَر إلهُهم المزيف بسوء. ذلك ما كان قبل أن ينكشف الستر ويظهر الخَبيء، فلما انكشف ظهر ما كانوا يُخْفون، وإذا بهم يسجدون لصوره ويرغمون أسرى الثورة على السجود، بل إنهم ليعذبونهم ويستنطقونهم حتى ينطق المعذَّبون بالكفر البواح: "لا إله إلا بشار". تعالى الله عمّا يفترون، ولعنة الله على بشار وعلى عَبَدة بشار وزبانية بشار أجمعين.

لقد كان أول ما هتف به شبابُ ثورة الغضب: "حرية، حرية" و"الشعب السوري لا يُذَل". لن يعرف شعبٌ عربي أبداً ما معنى هذا الهُتاف لأن أيّ شعب عربي لم يفقد حريته ولم يفقد كرامته كما فقدها الشعب السوري، ولا حتى الشعب الفلسطيني. أقسم بالله إن الفلسطيني عاش تحت الاحتلال اليهودي الصهيوني أكثرَ حريةً وأوفرَ كرامةً من السوري الذي عاش تحت الاحتلال البعثي الأسدي في سوريا في السنوات الأربعين الماضيات.

-4-

في سوريا كل عنصر مخابرات مَلِكٌ ومالِك، وكل أفراد الشعب رعايا ومماليك. لمّا سطا الأسد الأب على البلد أباحها لمَلَئه وأعوانه، قال لهم: هذه سوريا مباحة لكم فافعلوا فيها ما تشاؤون، على أن لا يقترب مني أحد أو ينافسني في السلطان فإني لا أرحمه وأذيقه أشدّ العذاب. منذ تلك اللحظة ملكت أجهزةُ الأمن البلادَ بصك الاستعباد، وصار الناس مُلكاً لها تتصرف فيهم كما تشاء: تنتزع ممن تشاء منهم حرّيتَه ولا يسألها أحد، وكرامتَه فلا يحاسبها أحد، وحياتَه فلا يعاقبها أحد. الكبار والصغار، والرجال والنساء، والعرب والكرد، والمسلمون والمسيحيون، كل واحد حمل هويةً سوريةً فكأنما حمل صكّ عبودية، وصار الكل مماليكَ وأجهزةُ الأمن هم المالكون. ويا ليتهم يتصرفون في مماليكهم كما يتصرف راعي البهائم في البهائم، بل هم أذل وأهون، وهم أدنى قيمةً من البهائم والحيوانات.

في سوريا يحق لعناصر الأمن أن يقتحموا بيتك في أي وقت من ليل أو نهار، ويجرّوك أو يجرّوا ولدك أو زوجتك إلى حيث يريدون. لا يحق لك أن تعترض ولا يحق لأحد من أهل بيتك أن يسأل، ولن يعرف المعتقَل في أي شيء يُعتقَل، وربما قُتل من بعد ولا يعرف في أي شيء يُقتَل، أما أهله فقد تمضي السنوات ولا يعرفون أين مكانه ولا يعرفون مصيره. إنهم يتمنّون أولاً أن يعود، ثم يتمنون أن يزوروه، ثم يتمنّون أن يَرَوه ولو خمس دقائق، ثم يتمنون أن يسمعوا عنه خبراً، أي خبر... وما تزال أمانيّهم تتضاءل حتى تُختزَل في أُمنيّة واحدة: أن يعرفوا أفي الأحياء هو أم في الأموات!

لقد اعتاد أهل سوريا أن يفقدوا أبناءهم صامتين، وأن ييأسوا من معتقَليهم صامتين، وأن يدفنوا موتاهم صامتين. هل أتاكم خبر سجن تدمر، "باستيل" سوريا الرهيب؟ استنطِقوا الصحراء الممتدة خلفه تُنْبِئكم كم غُيِّبَ في بطنها من أبرياء كانوا من أفضل الناس وأطهر الناس، لن تَعُدّوهم -لو عددتموهم- عشرات ومئات، بل ألوفاً وعشرات ألوف، عليهم رحمة الله.

-5-

فجأة تفجر العالم العربي بالثورات؛ لقد بدأ "الربيع". خرج التونسيون إلى الشوارع (17/12/2010)، ثم المصريون (25/1/2011)، ثم اليمنيون (11/2/2011) والليبيون (17/2/2011)، وبدأ الناس يتساءلون: إن السوريين أَولى العرب بالثورة لسوء حالهم ولمبلغ إجرام نظامهم، فهل تراهم يثورون؟ اختلف الناس، ولكن الأكثرين حسموا الأمر: لا يمكن أن يثور السوريون، فإنهم وإن يكونوا الأحوجَ إلى الحرية إلا أنهم الأقلّ قدرة على المطالبة بها، لأن نظامهم هو الأسوأ والأكثر إجراماً على ظهر الأرض.

مع بداية شهر شباط (فبراير) ظهرت بعض الدعوات الخجولة للتظاهر في حلب ودمشق، وحُدّدت عدة مواعيد لم تلقَ تجاوباً كافياً، فأحسّ منظّموها بالفشل والإحباط. لكن الناس يريدون والله يريد، والله يقضي ما يريد. لقد قدّرَ الله ودبّرَ ما عجز عن تقديره وتدبيره البشر، ففي السابع عشر من شباط اعتدى شرطي من شرطة العاصمة على أحد تجارها في سوق "الحريقة" العريق وأهانه وضربه، فاشتعل السوق في مظاهرة عفوية وتجمعت -بلا سابق تدبير ولا تخطيط- أولُ مظاهرة في سوريا خلال نصف قرن إلا سنتين! وسرعان ما تجمع الآلاف وبدؤوا بالهتاف الشهير: "الشعب السوري لا يُذَل"، حتى وصل وزير الداخلية بنفسه لاحتواء الموقف، وانتشر "الشبّيحة" والأمن فاخترقوا المظاهرة وسرقوها من أصحابها وراحوا يهتفون: "الله، سوريا، بشار وبَس".

مع أن المظاهرة لم تكن ذات شأن بالقياس إلى ما رأيناه في الشهور اللاحقة، إلا أنها كانت حادثة هائلة في نظر السوريين، فلأول مرة اجتمع عدد كبير منهم في تجمع غاضب ضد رمز من رموز النظام، ولأول مرة تحدثوا عن الذل وعن الكرامة وعن الشعب، وهي كلها ألفاظ لا يعرفونها لأنهم فقدوا الإحساس بأنفسهم منذ دهر، وسُلِبوا الكرامة حتى نَسُوا أن من حقهم أن يعيشوا بشراً مكرَّمين. ورُفع مقطع مصوَّر للمظاهرة على اليوتيوب وانتشرت أخبارها انتشار النار في مستودع أخشاب، فما مرّ أسبوع حتى تجاوزت مشاهداته مئةَ ألف أو تزيد.

-6-

لقد اشتعلت النار في الفتيل. لم يرَ المراقبون فوق الأرض الكثير، ولكن الفتيل مضى يشتعل تحت الأرض وتمتد شعلته يوماً بعد يوم. بعد خمسة أيام اجتمعت مظاهرةٌ صغيرة أمام السفارة الليبية تنديداً بالقمع الدموي الذي يلقاه أهلنا في ليبيا في ثورتهم العظيمة على مجرمها الكبير، القذافي (البائد). لم تصمد المظاهرة الصغيرة طويلاً فقد فرّقها الأمن بعنف، وعندما تكررت في اليوم التالي تعرض المشاركون فيها إلى الضرب والسحل والاعتقال.

قبل انتهاء الشهر بأيام وقعت الحادثة التي قُدِّر لها أن تصبح مَعْلماً من معالم الثورة وواحدة من حوادث التاريخ. خطّ صبيةٌ في درعا على الحيطان عبارات تعلّموها من جيرانهم الذين عاشوا ربيع العرب؛ كتبوا: "الشعب يريد إسقاط النظام". هل علمتم ما درعا؟ عاصمة حوران، أرض البطولات والمَكرُمات التي أنجبت بعضاً من أكابر علماء الأمة، كالنووي وابن كثير، وعلى أرضها تفجرت الثورة السورية الكبرى أيام الفرنسيين.

تلك الحادثة الصغيرة وَلّدت ثورة. بضعة عشر صبياً لم يبلغ أكبرهم الخامسة عشرة جُمعوا من بيوتهم بليل وسيقوا إلى الاعتقال وتعرضوا لتعذيب يعجز عن تحمله الكبار، حُرقت أجسامهم وقُلعت أظافرهم وضُربوا وعُذّبوا أشدّ العذاب، ولمّا ألَحّ آباؤهم على مسؤول الأمن السياسي في درعا أن يطلقهم أجابهم بالجواب البذيء الذي انتشر واشتهر وصار معروفاً في كل مكان، قال: انسوهم وأنجبوا غيرهم، أو أرسلوا نساءكم نحمّلهنّ بالنيابة عنكم إن كنتم عاجزين!

إن الحر يصبر على الضيم زماناً ولكنه لا يصبر صبر الأبد، ولقد صبر هذا الشعب الأبيّ الكريم حتى جَفّ بحر الصبر، والبارود إذا مسّته النار كان الانفجار. لقد كانت هِمَم رجال درعا وقلوبهم باروداً وكانت كلمات ذلك المسؤول الفاجر هي النار، فثَمّ كان الانفجار.

-7-

انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية دعوةٌ إلى التظاهر في المدن السورية يوم الثلاثاء الخامس عشر من آذار (مارس). خرجت في ذلك اليوم مظاهرات صغيرة في دمشق وحلب ودرعا ودير الزور، وهتف المتظاهرون: "وينك يا سوري وينك؟"، واقتبسوا من إخوانهم الذين سبقوهم في مصر الهتافَ الأشهر: "سلميّة، سلمية". في اليوم التالي تظاهر نحو مئتَي شاب وفتاة في وسط دمشق واعتصموا أمام وزارة الداخلية مطالبين بالحرية وبإجراء إصلاحات سياسية والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وانتهت المظاهرة الصغيرة حينما هاجمها مئات من عناصر الأمن فضربوا المشاركين بالهراوات واعتقلوا عدداً منهم، وسحلوا البنات من شعورهن إلى حافلات الاعتقال!

يوم الجمعة، الثامن عشر من آذار، خرجت المظاهرات في عدة مدن في سوريا، وكانت أكبرها تلك التي خرجت في درعا. لقد كانت درعا فوق بركان تغلي حِمَمُه ويشرف على الانفجار، كان الغضب قد بلغ غايته بعد اعتقال الأطفال وبعدما كان من مسؤول الأمن السياسي ما كان. كانت النار توشك أن تندلع لا ينقصها إلا الزيت، وقد قدم النظام هذه الخدمة فصبّ الزيتَ على النار؛ استقبل المظاهرات بالرصاص الحي فسقط أربعة شهداء، ذلك كان الزيت وقد صُبَّ على النار فاندلعت وبدأت بالانتشار، اشتعلت درعا ومعها حوران.

يوم السبت شيّعت درعا الشهداء وثار البركان الحوراني. وجّه الشيخ أحمد الصياصنة من درعا نداء للشعب السوري: "صار التظاهر منذ اليوم فرض عين على كل سوري قادر، وأيّ خذلان هو خيانة لدماء الشهداء". هدّد مجرمو الأمن الشيخَ وطلبوا منه تهدئة المتظاهرين، ولمّا رفض ضربوه وأهانوه. لم يدركوا أن البركان المتفجّر لا يقدر على وقف انفجاره الشيخُ ولا غيرُه من الناس؛ متى كان لإنسان أن يمنع ثورة البركان؟

في اليوم التالي، الأحد 20 آذار (مارس) تدفقت جموع هائلة من مدن وقرى حوران على درعا وهي تنادي: "الفزعة الفزعة يا حوران"، وحاول بعض المسؤولين تهدئة الجموع بلا فائدة، وارتفعت أصوات المتظاهرين الثائرين مطالِبةً بإعدام مدير الأمن السياسي. لأول مرة منذ زمن طويل طالبت الجماهير علناً بإعدام مسؤول فاسد، ولأول مرة منذ أربعين عاماً هتفت الجماهير باسم الرئيس، ليس "قائداً إلى الأبد" ولا "نفديك بالروح والدم" وأمثالها من هاتيك الترّهات؛ لقد كان الهتاف الذي زلزل أرض حوران وارتفع عالياً في جوّ السماء هو: "بشار بَرّة بَرّة، سوريا حُرّة حرّة". لقد انكسر الوهم أخيراً وخرج المارد من القمقم!

في ذلك اليوم المشهود انكسر أيضاً واحدٌ من أكبر الأصنام في العالم العربي والإسلامي. خطب الأمين العام لما يسمى "حزب الله"، حسن نصر الله، فقال: "الأنظمة التي على شاكلة نظام حسني مبارك إذا ثارت عليها شعوبها فنحن معها، لكن عندما يكون هناك نظام ممانع ويحصل فيه مشاكل فالموضوع مختلف، سنقف معهم ونقول عالجوا أموركم بينكم". بعد خطاب حسن نصر الله أحرق المتظاهرون في درعا صوره وهم يهتفون: "نحن أيضاً مضطهدون ومظلومون". سقط نصر الله وسقط حزب الله، ويوشك أن تسقط إيران وراءهما بعد أسابيع قلائل؛ لقد احترق المشروع الكبير الذي أنفقت إيران في بنائه ثلث قرن، احترق وزال إلى الأبد.

-8-

كان يمكن أن تقف الأمور عند ذلك الحد. ماذا طلب المتظاهرون الغاضبون؟ عزل ومحاكمة مسؤول أمني، وتغيير محافظ فاسد، وإعادة بضعة عشر طفلاً إلى أُسَرهم، وإطلاق سراح بعض معتقلي الرأي الذين لم يتجاوزوا في أي يوم الدعوةَ إلى الإصلاح العام. ثم أضافوا بعد قليل طلباً آخر: رفع قانون الطوارئ الذي أذلّ العباد لنصف قرن من الزمان... أما إسقاط النظام أو تغييره فكان حلماً من الأحلام. لماذا لم يستجب النظام لتلك المطالب الهيّنة؟ ولو أنه قرر أن لا يستجيب، أكان ينبغي أن يواجه المظاهرات بالرصاص؟

بسرعة تحول الحراك الثوري باتجاه الاعتصامات، وبدأتها درعا باعتصام الجامع العمري الشهير. لكن ظهر سريعاً أن اعتصام الثوار في الساحات والأماكن العامة من المحرّمات الكبرى في رأي النظام، ولو أنه نجح في درعا فربما ينتشر في غيرها من المدن والمحافظات. هزّت الانفجارات درعا فجر الأربعاء 23 آذار (مارس)؛ لقد بدأ الهجوم الكبير على الجامع العمري. رفض المعتصمون الاستسلام وثبتوا في مواقعهم، ففتح عليهم جنود الجيش نيران الأسلحة الرشاشة ورموهم بالقنابل فسقط عشرات الشهداء ومئات الجرحى، وحينما تدفقت حشود المتظاهرين على الجامع من بقية أنحاء المدينة جوبهوا بالنيران وسقط المزيد من الشهداء، ومُنعت سيارات الإسعاف من بلوغ ساحة الحرب لنقل المصابين، بل إن عصابات الأمن والمخابرات وقفت سيارات الإسعاف واعتقلت منها المصابين كما "اعتقلت" جثث الشهداء.

انتشرت الأخبار في حوران بسرعة فانفجرت المظاهرات في إنخل وجاسم ونوى والحراك والحارّة وخربة غزالة وبقية مدن وقرى حوران، وتدفقت حشود هائلة غاضبة على مدينة درعا، فتصدّت لهم قوات الأمن وأطلقت عليهم الرصاص الحي، وعندما انتهى اليوم كان عدد الشهداء قد بلغ اثنين وخمسين. لقد تجاوزت حوران خط الرجعة وبلغت نقطة اللاعودة، لن تهدأ بعد اليوم حتى سقوط النظام.

-9-

مساء الخميس 24 آذار (مارس) ظهر أول مسؤول حكومي ليتحدث للمرة الأولى عن الأحداث التي عصفت بالبلاد. تحدثت مستشارة الرئيس السوري، بثينة شعبان، في مؤتمر صحفي رُتِّب على عجل عن المؤامرة التي تتعرض لها سوريا لأنها الدولة الممانعة الصامدة التي تحتضن المقاومة، ونفت وجود أي مشكلة بين القيادة والشعب، ووعدت بالتحقيق في الأحداث ومعاقبة المسؤولين. لقد بدأ مسلسل الكذب والنفاق، وهو مسلسل طويل طويل، يشمل تصريحات وبيانات لهذا المسؤول من مسؤولي الحكومة وذاك، ويشمل خطباً طويلة مملة سيلقيها بعد ذلك مَن يسمي نفسَه رئيس البلاد، وسوف يكون جمهوره في كل واحد منها حفنة من المنافقين الذين دُرِّبوا على النعيق والتصفيق، وسوف يكون رد الشعب على كل خطاب مئات المظاهرات الغاضبة في جميع أنحاء البلاد.

في مؤتمرها الصحفي أكدت بثينة شعبان أن الرئيس أصدر أوامر صارمة بعدم إطلاق النار على المتظاهرين. في اليوم التالي شاهد الناس في كل أنحاء العالم كيف ينفذ الأمن "الأوامر الصارمة" للرئيس: حينما اقتربت مظاهرة ضمت عدة آلاف من أهالي كفر شمس والصنمين من مبنى الأمن العسكري فُتحت عليهم نيران الرشاشات الحية، وسقط الشهداء بالعشرات.

يوم الإثنين 28 آذار (مارس) كانت الصورة قد وضحت لكل ذي عينين: النظام اختار القمع والقتل طريقاً وحيداً للرد على غضب الشعب ومظاهراته، فظهر رئيس وزراء تركيا، رجب طيّب أردوغان، على شاشات الفضائيات ليقول: "لن نستطيع أن نقف مكتوفي الأيدي تجاه ما يحدث في سوريا". بعد ذلك لم يُشاهَد أردوغان واقفاً ويداه مكتوفتان؛ لقد وعد فوفى بالوعد، وكان ذلك هو كل ما صنعه من أجل سوريا.

-يتبع


 
 توقيع : شماليه


اللهــم لا تــؤمني مكــرك... ولا تــؤلنــي غيــرك..ولاتــرفع عنــي ستــرك

ولاتنسنــي ذكــرك..ولاتجعلنــي من الغـــافليــــن



twitter


رد مع اقتباس