من غزل الفقهاء ( 3 )
وما لي أدور وأسوق لك الأخبار، وعندنا شعراء كان شعرهم أرق من النسيم إذا سرى، وأصفى من شعاع القمر، وأعذب من ماء الوصال، وهم كانوا أئمة الدين وأعلام الهدى.
هذا عروة بن أذينة الفقيه المحدث شيخ الإمام مالك يقول:
إن التي زعمـت فـؤادك ملهـا
ـــــــــــــــــ خلقت هواك كما خلقت هوى لها
فبك الذي زعمت بها وكلاكمـا
ـــــــــــــــــ يبدي لصاحبـه الصبابـة كلهـا
ويبيت بين جوانحـي حـبٌّ لهـا
ـــــــــــــــــ لو كان تحـت فراشهـا لأقلهـا
ولعمرها لو كان حبـك فوقهـا
ـــــــــــــــــ يوماً وقد ضحيـت إذن لأظلهـا
وإذا وجدت لها وساوس سلـوة
ـــــــــــــــــ شفع الفؤاد إلى الضميـر فسلهـا
بيضاء باكرها النعيـم فصاغهـا
ـــــــــــــــــ بلبـاقـة فأدقـهـا وأجلـهـا
منعت تحيتها فقلـت لصاحبـي
ـــــــــــــــــ ما كان أكثرهـا لنـا وأقلهـا!
فدنا فقـال ، لعلهـا معـذورة
ـــــــــــــــــ من أجل رقبتها، فقلت : لعلهـا
هذه الأبيات التي بلغ من إعجاب الناس بها أن أبا السائب المخزومي لما سمعها حلف أنه لا يأكل بها طعاما إلى الليل.
وهو القائل، وهذا من أروع الشعر وأحلاه، وهذا شعر شاعر لم ينطق بالشعر تقليدًا، وإنما قال عن شعور، ونطق عن حب، فما يخفى كلام المحبين:
قالت وأبثثتها وجدي فبحت بـه
ـــــــــــــــــ قد كنت عندي تحب الستر، فاستتر
ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها:
ـــــــــــــــــ غطي هواك وما ألقى على بصـري
هذا الشاعر الفقيه الذي أوقد الحب في قلبه نارا لا يطفئها إلا الوصال:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي
ـــــــــــــــــ عمدت نحو سقاء المـاء أبتـرد
هبني بردت ببرد المـاء ظاهـره
ـــــــــــــــــ فمن لحر على الأحشاء يتّقد!؟
وهذا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أحد فقهاء المدينة السبعة الذين انتهى إليهم العلم، وكان عمر بن عبد العزيز يقول في خلافته: لمجلس من عبيد الله لو كان حيا، أحب إلي من الدنيا وما فيها، وإني لأشتري ليلة من ليالي عبيد الله بألف دينار من بيت المال، فقالوا: يا أمير المؤمنين، تقول هذا مع شدة تحريك وشدة تحفظك؟ قال: أين يذهب بكم؟ والله إني لأعود برأيه ونصيحته ومشورته على بيت المال بألوف وألوف، وكان الزهري يقول: سمعت من العلم شيئا كثيرا، فظننت أني اكتفيت حتى لقيت عبيد الله فإذا كأني ليس في يدي شيء.
وهو مع ذلك الشاعر الغزل الذي يقول:
شققت القلب ثم ذررت فيه
ـــــــــــــــــ هواك فليم فالتمام الفطـور
تغلغل حب عشمة في فؤادي
ـــــــــــــــــ فباديه مـع الخافـي يسيـر
تغلغل حيث لم يبلغ شراب
ـــــــــــــــــ ولا حزن ولم يبلغ سـرور
أفسمعت بأعمق من هذا الحب وأعلق منه بالقلب؟ ولم يكن يخفي ما في قلبه، بل كان إذا لقيه ابن المسيب فسأله: أأنت الفقيه الشاعر؟ يقول: "لا بد للمصدور من أن ينفث" فلا ينكر عليه ابن المسيب، وهو القائل:
كتمت الهوى حتى أضر بك الكتم
ـــــــــــــــــ ولامك أقـوام ولومهـم ظلـم
ونمّ عليك الكاشحون و قبلهـم
ـــــــــــــــــ عليك الهوى قد نم لو نفـع النـم
وزادك إغراء بهـا طـول بخلهـا
ـــــــــــــــــ عليك وأبلى لحم أعظمـك الهـم
فأصبحت كالنهدي إذ مات حسرة
ـــــــــــــــــ على إثر هند أو كمن سقي السم
ألا من لنفس لا تموت فينقضـي
ـــــــــــــــــ شقاها ولا تحيا حياة لهـا طعـم
تجنبـت إتيـان الحبيـب تأثمـا
ـــــــــــــــــ ألا إن هجران الحبيب هو الإثـم
فذق هجرها إن كنت تزعم أنـه
ـــــــــــــــــ رشاد ألا يا ربما كـذب الزعـم
ألا إن هذا هو الشعر .!
|