من غزل الفقهاء ( 4 )
واسمع يا سيدي أنشدك ما يحضرني من غزل الفقهاء، لا أستقصي ولا أعمد إلى الترتيب، وإنما أروي لك ما يجيئني، وما يدنو مني مصدره. هذا أبو السعادات أسعد بن يحيى السنجاري الفقيه الشافعي المتوفى سنة 622 هـ فاسمع من شعره ما ترقص منه القلوب، وتطرب الألباب: حلاوة ألفاظ، وبراعة معنى، وحسن أسلوب، قال من قصيدة له:
وهواك ما خطـر السلـو ببالـه
ــــــــــــــ ولأنت أعلم في الغـرام بحالـه
ومتى وشـى واش إليـك بأنـه
ــــــــــــــ سال هـواك فـذاك مـن عذالـه
أوليس للكلـف المعنـى شاهـد
ــــــــــــــ من حاله يغنيـك عـن تسآلـه
جددت ثوب سقامه، وهتكت ستـ
ــــــــــــــ ـر غرامه، وصرمت حبل وصاله
أفزلـة سبقـت لـه أم خـلـة
ــــــــــــــ مألوفـة مـن تيهـه ودلالــه
أوما سمعت شعر الشيخ الشهرزوري الصوفي هاك منه قوله:
فعاودت قلبي أسأل الصبر وقفـة
ــــــــــــــ عليها فلا قلبي وجدت ولا صبري
وغابت شموس الوصل عني وأظلمت
ــــــــــــــ مسالكه حتى تحيرت فـي أمـري
وهاك قول ظهير الدين الأهوازي الوزير الفقيه، تلميذ أبي أسحق الشيرازي:
وإني لأبدي في هواك تجلدا
ــــــــــــــ وفي القلب مني لوعة وغليل
فلا تحسبن أني سلوت فربما
ــــــــــــــ ترى صحة بالمرء وهو عليل
وقول أبي القاسم القشيري الإمام الصوفي العلم:
لو كنت ساعة بيننا ما بيننـا
ــــــــــــــ ورأيت كيف نكرر التوديعـا
لعلمت أن من الدموع محدثـا
ــــــــــــــ وعلمت أن من الحديث دموعا
والبيت الثاني من مرقصات الشعر.
وكان مع ذلك علامة في الفقه والتفسير والحديث ومن فقهاء الشافعية الكبار، وهو صاحب الرسالة التي يعتدها الصوفية ككتاب سيبويه عند النحويين، ولا ينصرف الإطلاق إلا لها، ومن شعره:
ومن كان في طول الهوى ذاق لذة
ــــــــــــــ فإنيَ من ليلى لهـا غيـر ذائـق
وأكثر شيء نلته مـن وصالهـا
ــــــــــــــ أماني لم تصدق كخطفـة بـارق
ومن شعر القاضي عبد الوهاب المالكي الفقيه المشهور المتوفى سنة 422 والمدفون في قرافة مصر، وصاحب الخبر المستفيض لما خرج من بغداد وخرج أهلها لوداعه وهم يبكون ويعولون وهو يقول: والله يا أهل بغداد، لو وجدت عندكم رغيفا كل يوم ما فارقتكم. ويقول:
سلام على بغداد في كل موطن
ــــــــــــــ وحق لها مني سلام مضاعـف
فوا الله ما فارقتها عن قلى لهـا
ــــــــــــــ وإني بشطي جانبيهـا لعـارف
ولكنها ضاقت علي بأسرهـا
ــــــــــــــ ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
وكانت كخل كنت أهوى دنوه
ــــــــــــــ وأخلاقه تنـأى بـه وتخالـف
ويقول فيها:
بغداد دار لأهل المـال طيبـة
ــــــــــــــ وللمفاليس دار الضنك والضيق
ظللت حيران أمشي في أزقتها
ــــــــــــــ كأنني مصحف في بيت زنديق
وهو معنى جيد وتشبيه عجيب، وهو القائل:
متى يصل العطاش إلى ارتواء
ــــــــــــــ إذا استقت البحار من الركايا
ومن يثني الأصاغر عن مراد
ــــــــــــــ وقد جلس الأكابر في الزوايا
وإنَّ ترفع الوضعـاء يومـا
ــــــــــــــ على الرفعاء من إحدى الرزايا
إذا استوت الأسافل والأعالي
ــــــــــــــ فقد طابت منادمـة المنايـا
ومن غزله الذي يتغزل فيه بلغة الفقه والقضاء، فيأتي فيه بالمرقص المطرب قوله:
ونائـمـة قبّلتـهـا فتنبـهـت
ــــــــــــــ وقالت تعالوا واطلبوا اللص بالحد
فقلت لها إني فديتـك غاصـب
ــــــــــــــ وما حكموا في غاصب بسوى الرد
خذيها وكفي عن أثيـم ظلامـة
ــــــــــــــ وإن أنت لم ترضي فألفا على العد
فقالت قصاص يشهد العقل أنـه
ــــــــــــــ على كبد الجاني ألذ مـن الشهـد
فباتت يميني وهي هميان خصرهـا
ــــــــــــــ وباتت يساري وهي واسطة العقد
فقالت ألم تخبـر بأنـك زاهـد؟
ــــــــــــــ فقلت: بلى ما زلت أزهد في الزهد
وهاك القاضي الجرجاني مؤلف الوساطة علي بن عبد العزيز الفقيه الشافعي، الذي ذكره الشيرازي في طبقات الفقهاء صاحب الأبيات المعلمة المشهورة:
يقولون: لي فيك انقباض، وإنمـا
ــــــــــــــ رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم
ــــــــــــــ ومن أكرمته عزة النفـس أكرمـا
وما كل برق لاح لـي يستفزنـي
ــــــــــــــ ولا كل من لاقيت أرضاه منعمـا
وإني إذا فاتني الأمـر لـم أبـت
ــــــــــــــ أقلـب طرفـي إثـره متنـدمـا
ولكنـه إن جـاء عفـواً قبلتـه
ــــــــــــــ وإن مال لم أتبعـه لـولا وربمـا
وأقبض خطوي عن أمور كثيـرة
ــــــــــــــ إذا لم أنلها وافر العـرض مكرمـا
وأكرم نفسي أن أضاحك عابسـاً
ــــــــــــــ وأن أتلقـى بالمديـح مذمـمـا
ولو أن أهل العلم صانوه صانهـم
ــــــــــــــ ولو عظموه في النفـوس لعَظّمـا
ولكن أهانـوه فهـان ودنسـوا
ــــــــــــــ محياه بالأطمـاع حتـى تجهمـا
أأشقى به غرساً وأجنيـه ذلـة؟
ــــــــــــــ إذن فاتباع الجهل قد كان أحزمـا
ويا ليت كل عالم ينقش هذه الأبيات في صدر مجلسه، وعلى صفحة قلبه، ويجعلها دستوره في حياته، وإمامه في خلائقه!
والأبيات الأخرى:
وقالوا: توصل بالخضوع إلى الغنى
ــــــــــــــ وما علموا أن الخضوع هو الفقر
وبيني وبين المال شيئـان حرمـا
ــــــــــــــ عليّ الغنى: نفسي الأبية والدهر
إذا قيل هذا اليسر أبصرت دونه
ــــــــــــــ مواقف خير من وقوفي بها العسر
وله في هذا المعنى الشعر الكثير الجيد، أما غزله فسهل حلو ومنه قوله:
ما لي وما لك يا فراق
ــــــــــــــ أبداً رحيل وانطلاق
يا نفس موتي بعدهم
ــــــــــــــ فكذا يكون الاشتياق
وقوله:
قد برح الحب بمشتاق
ــــــــــــــ كفأَوْلِهِ أحسن أخلاقك
لا تجفه وارع له حقه
ــــــــــــــ فإنه آخـر عشاقـك
يتبع .!
|